خاشقجي الحرية والعدالة الدولية
بقلم: الصحافي حفيظ زرزان*
قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بعد اختفاء مفاجئ يوم ثاني أكتوبر 2018 بقنصلية السعودية بإسطنبول، وهو يهم بإتمام إجراءات الزواج من خطيبته التي تنحدر من بلد السيد سعيد النورسي رحمه الله، قادما من بلاد العم سام، التي اختارها منفى اختياريا؛ في سياق إقليمي ووطني ببلده، يعرفه الجميع.
واستمر الغموض في ملفه أسابيع، تضاربت خلالها الروايات والحسابات وتداخلت وتشابكت المصالح وتكاثرت التصريحات والتسريبات. فما عاد الناس يميزون بين ناعق وصادق. ولا يهمني أن أثبت وجهة نظر أحد من الناس، في عالم تباع فيه القيم والذمم علنا، وتذبح الإنسانية أمام الملأ لمن يدفع أكثر وبشكل أكبر، ويطبق الناس أفواههم لأنها مملوءة نفطا. عالم لا إنساني ظالم غاشم متحيز. في انتظار مستقبل أفضل وأمثل حيث يسود العدل العالمين، وأملنا ويقيننا راسخ إن شاء الله.
ولا يهمني الاصطفاف إلى جانب الرجل في مواقفه ومواقعه أيام حياته رحمه الله، بقدر ما أن قتله جريمة تستحق التضامن المطلق، وتتجاوز الصمت المقلق، لعدد من الناس. وحسبي أن أتناول حقه كصحفي وإنسان اتفقنا أو اختلفنا حول اصطفافاته واتجاهاته وآراءه.
وانقسمت بلاد العرب والغرب بين مؤيد ومعارض، ومستنكر وشاجب، وملتزم بالواجب للصاحب، وقضاء المآرب، بضرورة الاصطفاف والالتفاف على القضية، مقابل الأعطية. ومنهم من يحذر من التسييس في محاولة للتدليس. وكانت عينهم جميعا ولازال البعض منهم، إلى وقت قريب، على الثروات والمشتريات وحصص الشركات العابرة للقارات، وعلى الاستثمارات والحسابات المصرفية، فضلاً عن محورية البلد والولد، المزهو بقدرته وسلطته وسطوته وخفته. كانوا إلى قريب، كغريب، يغضون الطرف عن التجاوزات والانتهاكات والحملات الجارية.
هل سنعيش على وقع تحول جديد بالمجتمع الدولي فجأة، ويغلب المنطق الإنساني المبدئي، ونرى العدالة المنشودة تغلب الجانب السياسي والعلاقاتي البرغماتي؟ وينتصر الناس للمبادئ اعتبارا للمدرسة المثالية كما يسمونها في تقعيدهم للعلوم الإنسانية والاجتماعية، والمدارس التي تناولت العلاقات الدولية بعد انفرادها كعلم قائم بذاته بعد الحرب العالمية الأولى؟
الوقائع والمعطيات الثابتة تقول أنه ليست هناك اليوم قوة تَردع وللقانون تَخضع؛ بل الأمم المتحدة برمتها تحت وطأة “الفيتو” الذي يعطل ويبطل إجراما وأحكاما.
وإلى الأمس القريب اجتاح قوم العراق بعد احتلاله الكويت، وجلسوا يتفرجون، وإسرائيل وهي تبيد شعبا بأكمله وترتكب المجازر. ولم يحرك أحد ساكنا تجاه احتلالهم لفلسطين، ولا غير فلسطين. تلك الآلة الصهيونية التي تنتهك يوميا القرارات الدولية والقانون الدولي. ورأيناهم يصمتون عن رابعة، ويتقاسمون سوريا، ويخربون اليمن ولا وطن إلا لمن يدفع الثمن. نفس القانون يتحرك كل مرة تحت اسم جديد ومصلحة وأهواء، إما محاربا للشيوعية أو الحركة “الإخوانية” أو حروب استباقية أو للقضاء على عملية إرهابية…
وصمت الصف الإعلامي العربي الرسمي والرقمي بشكل مؤسف ومؤلم ومخجل بنقاباته ومنابره، فيما تحركت الآلة الإعلامية الغربية هناك حيث المساحة أكبر والحرية أكثر، واستسلمنا مشدوهين لاحترافية عدد من المنابر العربية المقتدرة والمهنية، وأخرى غربية، في حبك الخبر وصناعة الصورة والمهنية في التناول وضبط المعلومة، حيث تمايزت الآراء وتجلت الصورة كاملة غير منقوصة موثقة بالأدلة الصوتية والمرئية.
موقفي من هذا الاغتيال واضح، أعيد التأكيد عليه، مهما تضاربت المصالح والحسابات والرهانات والامتدادات والروايات وظهرت أو اختفت التحقيقات. فالقتل واحد، ولا أملك إلا إدانته بقوة وبشدة، والمطالبة بالإفراج عن نتائج التحقيق، وأن تأخذ العدالة مجراها والمساطر القانونية مسارها الطبيعي ويتم تحديد المسؤوليات وتوزيع الجزاءات لكل متورط مهما كان مستواه، وأرجو أن لا تعقد الصفقات من أطراف الملف على رفاته وتختفي الحقيقة مع جثته.
أختم بجزء من حياة الراحل رحمه الله، لعله يخز ضميرا ويحرر أسيرا، وهو مشهد، كان فيه رحمه الله مع ابنته، فشد انتباهي نظم كتبته ابنته اقتباسا من آخرين. خطت على فستانها الجميل في لحظة طفولة وبراءة، وقد كانت سعيدة بأبيها: “حتى فساتيني التي أهملتها، فرحت به ورقصت عند قدميه”.
لست أدري ما الذي ستكتبه هذه الطفلة اليوم وغدا، وما حال قلبها، وهي لا تدري أن أباها ضاع في ملاعب الكبار إلى حين. وإنها لرزية وأي رزية لنا جميعا إن انخرطنا في موجه الذل الجماعي والصمت على الموت بهذه الطريقة مهما اختلفنا مع هذا القلم. في أب كانت تطرب عين البنت لطلعته وتنتظم الكلمات لرؤيته. وهل عند كل الناس خبر بحال الموجوعين والمفجوعين في عزيز، وهل كلنا يملك قلبا؟
هيهات !
*إعلامي وكاتب مغربي