خالد الصمدي يكتب: رسالة يابسة
هوية بريس – د.خالد الصمدي
في الوقت الذي يوقع نساء ورجال التعليم محضر الالتحاق بالعمل، تذكرت واقعة لا تزال حاضرة في ذهني وكياني إلى اليوم.
ففي نهاية ثمانينات القرن الماضي تخرجت من سلك الإجازة في الدراسات الإسلامية من مدرسة النضال جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، التحقت بمكتبة الوالد حفظه الله لبيع الكتب المدرسية بداية الدخول المدرسي في انتظار فرصة تلوح في الأفق للالتحاق بمهنة التعليم التي كنت أعشقها.
وقف ساعي البريد (للتعرف على هذه المهنة المنقرضة انظر كتاب: فهرست الراضي في مهن الماضي) هههه
وقف أمام المكتبة مزهوا ببذلته الرسمية الأنيقة، ودراجته النارية التي كان يتجول بها كل صباح حاملا في حقيبته الجلدية أخبار الأفراح والأتراح ( قبلزمن الواتساب طبعا) وسلمني رسالة وقعت على استلامها وشكرته مبتسما.
تفحصت مصدر المراسلة فإذا بها من وزارة التربية الوطنية
خفق قلبي وفتحت الرسالة
فقرأت ما يلي:
إلى السيد خالد الصمدي (العنوان)
سلام تام بوجود مولانا الامام وبعد:
طبقا للقوانين الجاري بها العمل في إطار الخدمة المدنية
نخبركم أنه قد تقرر تعيينكم ابتداء من تاريخ توصلكم بهذه الرسالة مدرسا للتعليم الإعدادي بنيابة أنفا بمدينة الدار البيضاء، في إطار الخدمة المدنية، وعليه نطلب منكم الالتحاق بمقر عملكم واستلام مهامكم وتوقيع محضر الدخول وموافاتي بنسخة منه والسلام.
بقدر ما سررت بهذه الرسالة بقدر ما انتابني خوف شديد من أول تجربة للتدريس في صحراء مدينة الدار البيضاء التي أجهل مفازاتها، فحزمت حقيبتي بحماس الشباب الشغوف بالمغامرة وقررت اقتحام هذا المرغوب المجهول.
وهكذا وقعت أول محضر للدخول أستاذا مجندا!!! لمادة التربية الإسلامية بالسلك الإعدادي في إطار الخدمة المدنية بإعدادبة العيون درب الكبير بمدينة الدار البيضاء.
وقد بذلت خلال سنتي الخدمة المدنية قصارى جهدي في التحضير والتدريس والحضور دون غياب إلى الحد الذي انتدبني مفتش المادة لألقي درسا نموذجيا حضره أساتذة المادة في النيابة باختلاف تكويناتهم وتجاربهم وأقدميتهم، وكان كل أملي بهذا المجهود أن أدمج في سلك الأساتذة الرسميين بعد انتهاء مدة الخدمة المدنية.
وعند اقتراب انتهاء فترة الخدمة المدنية (سنتان) كتبت طلبا في الموضوع الى السيد الوزير عبر السلم الاداري بكل ما يليق من الأدب، مشفوعا بشهادة تزكية واعتراف بجدية عملي من المدير ومفتش المادة، وغادرت إلى عطلة الصيف.
عدت الى المدرسة في بداية السنة الدراسية الموالية وكلي أمل في أن أوقع محضر الدخول واستئناف العمل مع تلامذتي وزملائي الأساتذة فسلمني مدير المؤسسة رسالة واردة من الوزارة وقد بدت على وجهه علامات الأسى والأسف.
فتحتها ثم قرأت ما يلي:
إلى السيد خالد الصمدي
أستاذ مجند في إطار الخدمة المدنية إعدادية العيون نيابة أنفا الدار البيضاء
سلام تام بوجود مولانا الامام وبعد
نخبركم أنه قد شطب عليكم (هكذا بالحرف) من سجلات وزارة التربية الوطنية ابتداء من تاريخ توصلكم بهذه الرسالة والسلام.
لا زلت احتفظ بهذه الرسالة اليابسة التي وصلتني من وزارة التربية والتي لم تتضمن ولو عبارة شكر ومجاملة واحدة على المجهود الذي بذلته طيلة سنتين من التدريس وأعباء السكن والتنقل بمدينة فيحاء اسمها الدار البيضاء.
ثم طلب مني السيد المدير متأسفا أن أوقع محضر الخروج عوض محضر الدخول.
وحده احتضان المدير والزملاء الأساتذة والطاقم الاداري الذين منحوني بعض الدفء وعوضوا قساوة المراسلة.
غادرت المكان مودعا الجميع بابتسامة ممزوجة بحيرة وحسرة.
مررت في الساحة ببعض التلميذات والتلاميذ الذي ارتموا في أحضاني فرحين بالموسم الدراسي الجديد يتمنون بداية أول حصة دراسية في قسمي وفي مادتي التي كانو يحبونها.
خرجت من جديد إلى المجهول عائدا إلى مكتبة الوالد بمدينة القصر الكبير، في الوقت الذي كان تلاميذي ينتظرونني في القسم.
لم تثبط الرسالة من حماسي، بقدر ما قوت عزيمتي على رفع التحدي.
فعقدت العزم على مزيد من الجد والاجتهاد للحصول على دبلوم التخرج من دار الحديث الحسنية بالرباط، والتحضير الجيد لمباراة المدرسة العليا للأساتذة في السنة الموالية، مسلحا برصيدي وتجربتي التربوية التي اكتسبتها من تجربتي في الخدمة المدنية، والتي أفادتني كثيرا في مساري المهني، وكرست اشتغالي إلى اليوم تكوينا وبحثا بمركزية القيم في الخطاب التربوي بصفة خاصة والمنظومة التربوية بصفة عامة.
والحمد لله على أقداره الحكيمة فرب ضارة نافعة.