خبير شرعي يوضح حول فعل انتشر ببعض مساجد المملكة (سجود الشكر مباشرة بعد صلاة الفريضة)!
هوية بريس – د.رشيد بنكيران
انتشر في بعض المساجد عمل محدث كما كثرت الدعوة إليه في وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو أنه التزم بعض المصلين سجدة بعد انتهائهم وتسليمهم من صلاة مكتوبة أطلقوا عليها سجدة الشكر، واستدلوا على هذا العمل بحديث مرفوع:
(إن العبد إذا صلى، ثم سجد سجدة الشكر، فتح الرب تعالى الحجاب بين العبد وبين الملائكة، فيقول: يا ملائكتي! انظروا إلى عبدي، أدى فريضتي، وأتم عهدي ثم سجد لي شكرا على ما أنعمت به عليه، يا ملائكتي ماذا له ؟ فتقول الملائكة: يا ربنا رحمتك. ثم يقول الرب تعالى: ثم ماذا له؟ فتقول الملائكة: يا ربنا جنتك. فيقول الرب تعالى: ثم ماذا ؟ فتقول الملائكة: يا ربنا كفاه ما همه. فيقول الله سبحانه وتعالى: ثم ماذا ؟ فلا يبقى شيء من الخير إلا قالته الملائكة. فيقول الله تعالى: يا ملائكتي ثم ماذا ؟ فتقول الملائكة: يا ربنا لا علم لنا. فيقول الله تعالى: لأشكرنه كما شكرني، وأقبل إليه بفضلي وأريه رحمتي).
ونظرا لكون هذا العمل بالكيفية المذكورة عملا محدثا غير مشروع وبدعة في الدين فإنه وجب تحذير المسلمين من الوقوع فيه عملا أو نشرا في مواقع التواصل الاجتماعي، وبيان ذلك في النقاط الآتية:
1 ـ الحديث آنف الذكر (إن العبد إذا صلى، ثم سجد سجدة الشكر، فتح…)
حديث لا يوجد في دواوين السنة والآثار؛ فلا يوجد لا في الصحيحين ولا في كتب السنن ولا في المسانيد، فهو حديث لا أصل له، وأشبه أن يكون مكذوبا وموضوعا ومختلقا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد صح من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: « إِنَّ كَذِبًا عَلَىَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، فهذا وعيد شديد ينتظر من كذب على النبي ولو بوضع واختلاق أحاديث ترغب الناس في الخير، وكذلك يلحق الوعيد الشديد من ينشر أحاديث عن النبي وهو لا يعرف صدقها من كذبها، فقد صح من قوله عليه الصلاة والسلام: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم حديث المتكلم بكل ما سمع دون تتبث كذبا. وفي بعض طرق الحديث «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
2 ـ سجدة الشكر أو سجود الشكر لمن قال بمشروعيتها من العلماء هي سجدة واحدة يسجدها المسلم عند حدوث نعمة أو اندفاع نقمة ؛ سواء أكانت النعمة أو النقمة خاصة بالساجد، أو عامة للمسلمين. فحين تصل البشرى إلى المسلم بحدوث نعمة ما أو برفع بلاء ونقمة ما، أو يرى ذلك بنفسه فإنه يسجد لله سجدة شكر وثناء على ما تفضل عليه به سبحانه وتعالى. وعليه، فلا وجه أن ترتبط سجدة الشكر بالصلاة ولا مناسبة في ذلك. كما أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد سجدة الشكر عقب صلاة مفروضة أو نافلة ولو مرة واحدة، ولم يفعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يفت بجواز ذلك أي عالم، فهو عمل محدث، ومن أحدث شيئا ليس عليه أمر النبي، ولا يشهد له دليل شرعي سالم من المعارضة فهو مردود عليه لا يقبل منه.
3 ـ موقف الفقهاء من سجدة الشكر:
اختلف العلماء في مشروعيتها؛ فمنهم من استحبها، وهو مذهب الإمام الشافعي ومذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، واستدلا بأحاديث من فعل النبي قد نقف على بعضها، وكذلك بعمل الصحابة، والقياس. وذهب الإمام مالك في المشهور عنه إلى كراهتها؛ أي أنها مكروهة. ومن أدلة المالكية على كراهتها أنها لو كانت تشرع عند كل نعمة تقع أو عند كل نقمة تدفع لنقل العمل بها بالتواتر، فهناك نعم كثيرة وقعت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينقل أنه سجد لها. وهذا التعليل يَسلُم لو كان من شرط مشروعية العبادات أن تنقل بالتواتر.
4 ـ أحاديث نبوية تدل على مشروعية سجدة الشكر من كتاب (بلوغ المرام من أدلة الأحكام للحافظ ابن حجر العسقلاني):
ـ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ اَلنَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – – كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ خَرَّ سَاجِداً لِلَّهِ – رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ.
ـ عَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ – رضي الله عنه – قَالَ: – سَجَدَ اَلنَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَأَطَالَ اَلسُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: “إِنَّ جِبْرِيلَ آتَانِي، فَبَشَّرَنِي، فَسَجَدْت لِلَّهِ شُكْرًا” – رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
ـ عن اَلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- – أَنَّ اَلنَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى اَلْيَمَنِ – فَذَكَرَ اَلْحَدِيثَ – قَالَ: فَكَتَبَ عَلِيٌّ – رضي الله عنه – بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اَللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – اَلْكِتَابَ خَرَّ سَاجِدًا – رَوَاهُ اَلْبَيْهَقِيُّ. وَأَصْلُهُ فِي اَلْبُخَارِيِّ.
5 ـ آثار عن بعض الصحابة رضي الله عنهم تشهد أيضا لمشروعية سجود الشكر:
ـ سجد كعب بن مالك رضي الله عنه شكرا لله لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه، أخرجه البخاري.
ـ سجد علي رضي الله عنه شكرا لله حين وجد ذا الثُّدَيَّة في قتلى الخوارج. وذو الثدية هو رجل أسود يدعى حرقوص بن زهير الجبلي إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام وجعله آية وعلامة على الخوارج. والأثر أخرجه أحمد.
ـ سجد أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه حين جاءه قتلُ مسيلِمة الكذاب الذي ادعى النبوة. أخرجه سعيد بن منصور في سننه.
6 ـ كيفية سجود الشكر
دلت ظاهر الأحاديث النبوية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد سجدة الشكر لله تعالى حينما يصل إلى علمه خبر يحمل بشارة خير، ويقينا أنه لم يكن في صلاة ولا فعلها بعد صلاة، فسجود الشكر لا يرتبط بالصلاة ولا يفعل داخلها ولا بعد الانتهاء منها. ولهذا لا يجوز أن يلتزم المسلم فعلها بعد صلاة الفريضة، ثم ما هي النعمة التي لم يكن يعلم الساجد شكرا حدوثها قبل دخوله في الصلاة ثم علم حدوثها بعد الانتهاء من صلاته مباشرة !!؟ فقد جرت العادة ألا يقع ذلك.
وهل يشترط في سجدة الشكر ما يشترط للصلاة؟ يعني هل لا بد من أن يكون الساجد متوضئا ومستقبل القبلة؟
للعلماء قولان في هذه المسألة، الظاهر والأقرب إلى الصواب أنه لا يشترط ذلك وإن كان الأفضل أن يكون الساجد لله شكرا على وضوء ومستقل القبلة. والله أعلم.
خلاصة:
– سجود الشكر مشروع عند وجود سببه، وهو حدوث نعمة أو اندفاع نقمة.
– الحديث المذكور أعلاه الذي يفيد أن سجدة الشكر عقب الصلاة مباشرة لا أصله ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
– لا يجوز التزام سجدة الشكر بعد الانتهاء من الصلاة مباشرة.
– خير الهدي هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وكل الخير في اتباع هديه.