خلفيات قرار الرئيس الفرنسي ماكرون بحل البرلمان

14 يونيو 2024 08:33

هوية بريس – بلال التليدي

ثمة تساؤلات جدية حول خلفيات القرار الذي أصدره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (حل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات تشريعية سابقة أوانها) وذلك مباشرة بعد الإعلان عن تصدر اليمين المتطرف للانتخابات الأوروبية حسب النتائج الأولية المعلن عنها.

البعض اعتبر القرار ضروريا وجريئا، حتى يضع الرئيس الفرنسي المجتمع الفرنسي بقواه الحية أمام مسؤولياته التاريخية في إنقاذ فرنسا من مخاطر وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، والبعض الآخر اعتبره مخاطرة أو مغامرة غير محسوبة، من جانب الرئيس الفرنسي، الذي لا يضمن أن يستثمر اليمين المتطرف قراره، ويراكم على الزخم الذي حصله في الانتخابات الأوروبية، ويجعل من الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها محطة لتحقيق تتويج ثان، يعقبها التتويج الأكبر في الرئاسيات المقبلة.

لكن مهما يكن تفسير هذا القرار أو توصيفه، من المستبعد جدا أن يكون ناتجا عن سوء تقدير أو حسابات غير دقيقة، فالسياسيون حينما يتعرضون لصدمة كبيرة، مثل ما تعرض له الرئيس الفرنسي بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الأوروبية، ونكسة حزبه في مقابل تصدر اليمين المتطرف للانتخابات الأوروبية، يحاولون دائما تجنب التفكير التقليدي، ويتجهون إلى إنتاج قرارات جريئة، غالبا ما تثير استفهام المراقبين. ينبغي أن نستحضر في هذا السياق قرار رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو حل البرلمان الإسباني، وإجراء انتخابات عامة سابقة لأوانها في يوليو من السنة الماضية، فقد جاء القرار مباشرة عقب هزيمة حزبه الاشتراكي في الانتخابات البلدية، وتصدر الحزب الشعبي لنتائجها. وقد كان من نتائج هذه الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها أن فشل الحزب الشعبي في تحقيق انتصار كبير يمكنه من تشكيل أغلبية حكومية، مما أعاد من جديد الحزب الاشتراكي لقيادة الحكومة.

في الواقع يبدو التشابه كبيرا بين الحالة الفرنسية والحالة الإسبانية، سوى أن ما يميز الحالة الفرنسية هو أن الضغط أكبر، فالرئيس الفرنسي، كان في الرئاسيات السابقة ينافس مرشحة اليمين المتطرف التي تمكنت من المرور إلى الدور الثاني لمرتين متتاليتين 2017 و2022، وهو يدرك ثانيا أن شرعيته ووجوده السياسي كان بسبب حاجة المجتمع الفرنسي إلى حزب يستنقذ فرنسا من يد اليمين المتطرف بعد أن تراجع كل اليمين واليسار.

الأرقام التي حققها اليمين المتطرف الفرنسي، سواء في الانتخابات الأوروبية أو الرئاسية، تفيد بأن الأمر يتعلق بمسار بدأ منذ سنة 2002، فيمين الجبهة الوطنية الفرنسي، قد راكم على مستوى الانتخابات الأوروبية تقدما مضطردا، فبعد أن حصل سنة 2009 على أقل من 6.5 في المائة من الأصوات، تمكن من الحصول على 25 في المائة سنة 2014، ليحقق حسب النتائج الأولية للاستحقاقات الأوروبية لسنة 2024 على حوالي 32 في المائة. وحقق على مستوى الرئاسيات تقدما مماثلا، فباستثناء التراجع المتتالي في استحقاقات 2007 و2012، بواقع ناقص نقطتين في كل استحقاق قياسا إلى نتائج استحقاق 2002 التي حقق فيها 16.9 في المائة، فإنه استطاع أن يقلب المسار، ويحقق تقدما في الاستحقاقات التالية، فحقق في الدور الأول من استحقاقات 2017 نسبة أصوات بلغت 21.3 في المائة، وأضاف حوالي نقطتين في استحقاقات 2022 بواقع 23.15 في المائة.

ثمة جانبان يفترض تسليط الضوء عليهما في قرار الرئيس الفرنسي، الأول هو التوقيت والمضمون، والثاني، هو الخلفية الحاكمة. بالنسبة للجانب الأول، فمن الواضح أن الرئيس الفرنسي أراد تحقيق هدفين، هدف إعلامي بامتياز، وهو أن يصرف الأنظار عن الفوز الذي حققه اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، ويصير بذلك قراره هو العنوان الأبرز في الإعلام الفرنسي والأوروبي، وهو ما تحقق بنسبة كبيرة، وهدف صدم اليمين المتطرف واستعجاله بوضعه أمام تحد آخر، هو الانتخابات التشريعية، وهو الهدف الذي يصعب قياس أثره، بحكم أن لحظة الانتشاء بالنصر تكون في الغالب مساعدة على الاستجابة للتحدي.

في الواقع، لا يقدم جانب التوقيت والمضمون إلا الجانب الشكلي من خلفية القرار، فعلامات الاستفهام التي أثارها كثير من المراقبين لا تجد جوابها إلا باستحضار سيناريوهين اثنين:

الأول، تقليدي، يعيد الأذهان رئاسيات 2017 و2022، وحالة التعبئة المجتمعية لمنع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، وضمن هذا السياق، يمكن أن نقرأ التواصل الفرنسي الألماني، ويمكن أن نقرأ أيضا قرار اليسار الفرنسي التحالف والدخول للانتخابات التشريعية المقبلة بمرشح موحد، ويمكن أن نستحضر أيضا خطابات ماكرون في رئاسيات 2022 التي دعا فيها قادة حزبه إلى توجيه الحملة الانتخابية إلى الذين قرروا عدم المشاركة بإدلاء أصواتهم في الانتخابات وعدم الاكتفاء بالذين يدلون أصواتهم.

الندوة الصحافية التي قدمها الرئيس الفرنسي ماكرون الأربعاء الماضي، التي كان يفترض أن تكشف خلفيات قراره، لم تقدم جديدا يذكر في هذا الموضوع، إذ كانت مزيجا من كل شيء، فدعا إلى التوحد لمواجهة التطرف، لكنه في الآن ذاته هاجم تحالف اليسار واعتبره غير طبيعي، وانتقد بشدة مواقف اليمين المتطرف.

الرسالة الملتقطة من هذا المؤتمر، أن هناك حالة انقسام أو تحالف غير طبيعي في المشهد السياسي الفرنسي، لا يخدم مصلحة إنقاذ فرنسا من خطر اليمين المتطرف، وأن كل جهة تسعى إلى تقوية ذاتها، بالشكل الذي سيكون فيه الرابح هو اليمين المتطرف، إن لم يتم تغليب ما اسماه الرئيس الفرنسي بمعركة القيم في مواجهة التطرف.
السيناريو الثاني، هو سيناريو المناورة، وهو القبول بالأمر الواقع، وأن اليمين المتطرف، سيفوز في الانتخابات التشريعية لا محالة، فتكون المناورة بأن تكون عين الرئيس الفرنسي على الانتخابات الرئاسية، وأن يكون في سياق التهيؤ لصفقة يتم بموجبها تقديم الحكومة أو بالأحرى جزء كبير منها لليمين المتطرف، وذلك لوضعه في محك التجربة، حتى يثبت فشله في إدارة الملفات الاقتصادية والاجتماعية الشائكة، ويقدم أوراق اعتماد ضعيفة تهوي به في الانتخابات الرئاسية، فيفقد بذلك زخمه، ويتراجع إلى حجمه الطبيعي.

مثل هذا السيناريو ممكن، لكنه يستلزم ابتداء أن يحصل توافق تاريخي بين الرئيس إيمانويل ماكرون وبين اليمين المتطرف على أساس أن تحتفظ الرئاسة بما يسمى بالمجال المحفوظ، أي إدارة العلاقات الخارجية، وقضايا الأمن والدفاع، وأن يتم تفويت السياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية لليمين المتطرف، حتى يثبت فشله، خاصة وأن هناك قناعة معممة لدى جزء كبير من المجتمع الفرنسي، أن خبرة اليمين المتطرف في المجال الاقتصادي والاجتماعي ضعيفة ومحدودة في الوضع العادي فبالأحرى في هذا الوضع الذي تعاني فيه فرنسا من مشكلات اقتصادية واجتماعية مستعصية.

في الواقع لا يمكن الدفع بهذا السيناريو ضد الآخر، فكلاهما واردان، وهما بالمناسبة لا يتعارضان، فيمكن أن يكون السيناريو الأول خطة (أ) ويمكن أن يكون السيناريو الثاني، خطة (ب) فالاستراتيجي في الموضوع هو محطة 2027 الرئاسية، تلك التي يفترض فيها أن يبدأ زخم اليمين المتطرف في النزول المدوي.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M