خلفيات مطالبة دي ميستورا المغرب بتوضيح تفاصيل الحكم الذاتي
هوية بريس – بلال التليدي
التوضيح الذي أصدره المتحدث الرسمي باسم الأمم المتحدة فرحان حق بخصوص اقتراح المبعوث الخاص الأممي للصحراء ستيفان دي ميستورا تقسيم الصحراء بين الطرفين، يفتح الطريق أمام تأويلات كثيرة، فمن جهة فإنه قام بتوصيف لما عرضه دي ميستورا على الأطراف بكونه ليس مقترحا أمميا، وفي الجهة المقابلة، أشار إلى أن طبيعة عمل المبعوث الخاص للأمين العام في ملف الصحراء، وأنه يطلع مجلس الأمن بشكل أساسي على عمله بشأن ملف الصحراء، وأنه يتطلع إلى العمل مع جميع الأطراف المعنية لدفع العملية إلى الأمام بشكل بناء قبل انطلاق لمشاورات القريبة المقبلة في أبريل 2025 وأن السؤال لا يتعلق بما يقدم هذا المبعوث الخاص من أفكار بين يدي الطرفين، وإنما يتعلق بمعرفة ماذا يريد أعضاء المجلس والأطراف أنفسهم اعتماده كطريقة للمضي قدما في هذه القضية.
من الواضح أن قصد هذا التصريح هو نفي أن تكون الأمم المتحدة بشكل رسمي قدمت مقترحا بشأن التقسيم، وأن ما يمكن أن يكون المبعوث الأممي الخاص بملف الصحراء قد عرضه على الأطراف إنما هو مجرد أفكار لقياس ردود فعل الأطراف المعنية، وأن ما يأخذ الطابع الرسمي، هو ما يتخذه أعضاء مجلس الأمن من قرارات بناء على الإحاطة التي تقدم لمجلس الأمن، وما تقبله الأطراف المعنية بالنزاع.
المغرب عبر بشكل رسمي عن رفضه مقترح دي ميستورا واعتبره متعارضا تماما مع الموقف المبدئي للمملكة المغربية، وموقف كل المغاربة بأن “الصحراء مغربية وجزء لا يتجزأ من التراب المغربي”. وذكر بأن الرباط سبق أن عبرت عن الموقف نفسه في العام 2002، “لما اقترح جيمس بيكر (المبعوث الأممي حينها) هذه الفكرة التي اقترحتها، وأكد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أن “المغرب لا يتفاوض حول صحرائه”، بل “يتفاوض بشأن نزاع إقليمي مع بلد جار ينازع المغرب في سيادته على أرضه”.
المثير في الموقف أن جبهة البوليساريو عبرت عن رفضها مقترح دي ميستورا بينما لم تعبر الجزائر عن أي موقف بهذا الخصوص، علما أن هذا المقترح، يعود في الأصل إليها، فالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة هو الذي قدم الفكرة لجيمس بيكر فحولها إلى مقترح عرضه على أطراف النزاع سنة 2002.
لا يهمنا كثيرا أن نتوقف على خلفيات عدم تعليق الجزائر على المقترح، فالأمر واضح فهذا المقترح يفيدها بدرجة أولى، وحتى جبهة البوليساريو، حين رفضته عللت ذلك برفض الطرفين له، لكن الذي يثير السؤال أكثر هو الدوافع والخلفيات التي وقفت وراء مطالبة دي ميستورا المغرب بتفصيل حيثيات مقترحه للحكم الذاتي، وما السلطات التي ستحتفظ بها الرباط، وما السلطات التي ستكون للحكم المحلي.
لا ندري على وجه الدقة دوافع هذا الطلب، في هذا التوقيت، وهل المقصود به إحراج المغرب، أم المقصود التمهيد لحوار سياسي جدي بين الطرفين على أرضية المقترح المغربي للحكم الذاتي.
ثمة في الواقع إشكال حقيقي في ترجيح أحد الاحتمالين، لكن ثمة ما يشبه المسلمة في لغة التفاوض السياسي، أن التفاصيل هي جزء من عملية التفاوض، وأن الكشف عنها يعتبر بمثابة كشف الأوراق للخصوم وتمكينهم من الابتزاز السياسي، فلا تفاوض البتة في التفاصيل، من غير مواقف مبدئية سابقة، يتم بناء عليها تحصيل التوافق حول مبدأ أن الحكم الذاتي هو الحل الوحيد لحل النزاع، وأن يتم الإقرار من طرف الخصوم أن أطروحة الاستفتاء التي تمسكوا بها لحوالي خمسة عقود، لم تعد حلا مفضلا لديهم، وأنهم لا يمانعون في التزام حل الحكم الذاتي، شريطة أن تكون تفاصيل هذا المقترح تحظى بالقبول عندهم.
ولعل هذا بالضبط هو ما أشار إليه المسؤول عن الدبلوماسية المغربية ناصر بوريطة في جوابه عن دي ميستورا، إذ ذكر في النقطة الرابعة من توضيحه “أن الأطراف حينما تكون مستعدة للدخول في مسار مبادرة الحكم الذاتي، وفي احترام للخطوط الحمراء، يمكن الحديث عن التفاصيل”.
هناك تساؤل افتراضي مهم يطرح بخصوص الجدوى من مطالبة المغرب بتفصيل مقترحه في الحكم الذاتي في الوقت الذي يتمسك فيه الطرف الآخر بأطروحة الاستفتاء، وهل هذا التفصيل الذي يطال به المبعوث الخاص للأمين العام، يهم الطرف الآخر، أم يهم المنتظم الدولي، أم يهم أعضاء مجلس الأمن؟
فإذا كان الأمر يخص المنتظم الدولي، فإن الزخم الدولي الداعم للمقترح المغربي للحكم الذاتي لم يشترط ذلك بالمطلق، هذا في الوقت الذي تراجع فيه الدعم لأطروحة الاستفتاء، حتى صارت رؤية الخصوم معزولة تماما بعدما تم الإقرار في إحاطات سابقة لمجلس الأمن بأن هذا الحل الاستفتاء غير واقعي ومستحيل التطبيق.
وإذا كان الأمر يخص الأطراف المعنية بالصراع، فهي إلى الآن لم تبد أي مرونة تذكر بهذا الخصوص، بل لا تزال متمسكة بأطروحتها البالية، بل إنها تبحث عن خيارات للتصعيد، ولولا أن الوضع الدولي والإقليمي يقف ضدها، لمرت إلى خيار آخر قد يدخل المنطقة للمجهول.
وإذا كان الأمر يخص أعضاء مجلس الأمن، فإن تفصيل المقترح المغربي لهم، لن تكون له فائدة في ظل حديث تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بأن الحل السياسي يتطلب الدخول في التفاوض بدون شروط مسبقة!
فالسيد الأمين العام للأمم المتحدة يعرف الزخم الدولي الداعم للمقترح المغربي للحكم الذاتي داخل مجلس الأمن نفسه بعد أن عبرت باريس عن موقفها الجديد في يوليو الماضي، ويعرف أن أطروحة الخصوم لم يعد هناك من يلتفت إليها، بما في ذلك روسيا والصين، اللتان باتتا ترتبطان بعلاقات جد متقدمة مع المغرب، دفعتهما إلى التحول من مواقع الإسناد للأطروحة الانفصالية إلى مواقع الحياد ودعم التوصل لحل سياسي عادل للنزاع.
لا ندري على وجه التحديد ما هي مقاصد السيد دي ميستورا من وراء طلبه للرباط بتوضيح وتفصيل مقترحها، لكن الراجح مما ذكر من مؤشرات، أن الرجل كان بصدد الجواب “الدبلوماسي المسموم” عن الرفض المغربي الصارم لمقترحه في التقسيم، وكأنه يريد أن يوجه رسالة سياسية للمغرب، حول “غموض” موقفه بخصوص تفاصيل الحكم الذاتي، فأراد بذلك أن يقدم هدية للخصوم، تلزم المغرب بإخراج أوراقه على المكشوف، حتى يتسنى لهم إسقاط مقترحه حتى قبل أن يقدموا موافقة مبدئية بخصوص شرعية الحكم الذاتي كحل وسيد للنزاع.
وعلى العموم، ومهما كانت التأويلات بخصوص موقف دي ميتسورا، فإن المحصلة المستنتجة من كل ذلك، أن مرحلته قد انتهت بالمطلق، وأنه فشل في مهمته، ليس لأن الأطراف متمسكة برؤيتها، ولا تريد أن تتقدم بخطوة إلى الأمام، ولكن، لأن عدم احترام المحددات التفاوضية المؤطرة لوساطة الأمم المتحدة في هذا الملف، تجعل أي مهمة للمبعوث الخاص الأممي محكومة في نهايتها بالفشل، ولذلك، يمكن القول إن مهمة دي ميستورا لم تفشل يوم قدم مقترح التقسيم، وإنما فشلت في اللحظة التي توجه فيها إلى جنوب إفريقيا، متمسكا بحريته في التشاور مع من يعتبرها دولا معنية بالنزاع! وهو يدرك أن هذه الدولة ليست معنية بالمطلق بالنزاع، وهي معادية للمغرب، وتقف في صف واحد مع أعداء وحدته الترابية.