خلق التفقد جماليات وتجليات
هوية بريس – رشيد وجري
إن المتتبع لأحوال الناس وظروف عيشهم اليوم في خضم هذه الحياة المادية الصعبة التي تموج بالتحديات موجا يكتشف دون عناء أن ضغوطات الحياة هاته وشجونها وتشعباتها شغلت الناس وألهتهم عن تفقد أهلهم وقرابتهم فضلا عن أصدقائهم وجيرانهم ومعارفهم فضعفت روابط الأخوة بينها وأواصر القرابة والعقيدة معا، مما جعل السمة الغالبة عليهم إلا من رحم الله الأنانية وحب الذات وعدم الاكتراث لحياة الآخرين، مرددين حالا أو مقالا مقولة: “نفسي نفسي”, أو “أنا ومن ورائي الطوفان” للأسف الشديد..
ويأتي خلق التفقد كأدب جم جميل, دعا إليه الإسلام ليقضي على أدواء النرجسية و عدم الاهتمام بالآخر، والتفقد فيما يعنيه هو السؤال عن الآخر ومعرفة سبب غيابه في حاله ومآله وتقديم يد العون له إذا احتاج إلى ذلك، والحفاوة به وتعهده بالتواصل، والاطمئنانُ على أموره. قال الله تعالى : {وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين }، [النمل : 20 ]، قال القرطبي في تفسيره: في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على نبي الله سليمان عليه السلام حاله فكيف بمن هو أعظم وأكبر منه ؟؟, ويشبه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالجسد الواحد في توادهم وتعاطفهم وتفقد بعضهم لبعض كخلق يجب أن يتحلى به كل مسلم يرجو رحمة ربه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتَراحُمِهم وتَعاطُفِهم مَثَلُ الجسد؛ إذا اشتَكَى منه عضوٌ، تَداعَى له سائرُ الجسد بالسهر والحمَّى))؛ (أخرجه مسلم وغيره من حديث النعمان بن بشير – رضِي الله عنه -).
والتفقد من هدي نبينا المختار صلى الله عليه وسلم إذ كان يتفقد أصحابه ويسأل عنهم وهذا كثير ومتنوع في سيرته العطرة ومن ذلك ما ورد في قصة ثابت بن قيس عن أنس بن مالك رضي الله عنهم :(أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه فقال ما شأنك؟ فقال ثابت: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة) أخرجه البخاري. ومن تفقده كذلك صلى الله عليه وسلم حين خروجه لغزوة تبوك في جيش بلغ عدده ثلاثين ألفا يتفقد أصحابه فإذا به في الطريق يقول “ماذا فعل كعب بن مالك” ؟. وفي موقف إنساني راق تفقده ومداعبته صلى الله عليه وسلم لطفل صغير بقوله: ( يا أبا عمير ما فعل النغير ؟)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن امرأة سوداء كانت تقّم في المسجد فماتت فقال: (هلا آذنتموني، فقال دلوني على قبرها فأتى قبرها فصلى عليها صلى الله عليه وسلم) فهذا فيه فضل السؤال عن الخادم والصديق وحُسن رعايتهم وتفقدهم. وفي موقف آخر حين خَرَجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزْوةٍ له، فلمَّا أفاءَ اللهُ عليه قال لأصحابِه: هل تَفقِدونَ مِن أحَدٍ؟ قالوا: نَفقِدُ فُلانًا ونَفقِدُ فُلانًا، قال: انظُروا هل تَفقِدونَ مِن أحَدٍ؟ قالوا: لا، قال: لكنِّي أفقِدُ جُلَيبيبًا…) أحمد والنسائي , وأختم هذه الكلمات من سيرة النبي الجميلة بتفقده صلى الله عليه وسلم للغلام اليهودي الذي كان يَخدُمُه، فمَرِضَ، فقام بعيادته ودعاه إلى الإسلام، فأسلم، فقال: “الحمدُ للهِ الذي أنقَذَه بي مِنَ النارِ”؛ (أخرجه البخاري ,وحياته العطرة صلى الله عليه وسلم كلها تفقد واهتمام في اهتمام بأمور الأهل والصحب والأمة الإسلامية بل والبشرية جمعاء كيف لا وهو الذي قال فيه سبحانه وتعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)سورة الأنبياء. وهو صلى الله عليه وسلم القائل: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ – يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ – شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَتَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا، أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ، وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ، كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ» السلسلة الصحيحة ج 2 ,906
وقد اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بتمثل هذا الخلق العظيم ومواقفهم المشرقة في هذا كثيرة ناصعة واكتفي بهذا النموذج في المقام ٍ قال طلحة بن عبد الله: خرج عمر ليلةً في سواد الليل، فدخل بيتًا، فلما أصبحتُ ذهبت إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقلت لها: ما بال هذا الرجل يأتيكِ؟ فقالت: إنه يتعاهدني مدة كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى. فقلت لنفسي: ثكلتك أمك يا طلحة، أعَثَرَاتِ عُمَرَ تَتَبَّعُ! (ابن كثير، البدايـة والنهايـة: (ج7/ ص135). وأبـو نعيم، حليـة الأولياء: عمر بن الخطاب، (ج1/ ص48)، عن الأوزاعي.) (وقصص على هذا النحو تروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه) …
بلى إن النفوس الأبيَّة قد تقبَل يد العون وتستحسنها وقد تقبل من يسدي لها معروفا وتقدره، لكنها لا ولن تسألها عادَةً وإن احتاجت إليها، فإن لم يرى حاجاتها المقرَّبون منها والفطناء، فمَن إذن ؟! , لذلك كان لزاما على المسلم الحاذق الذواق التخلق بخلق النبي صلى الله عليه وسلم هذا نفعا لأخيه وتفاديا لأي إحراج و استجلابا لجمالياته وفوائده وأجره …
وابشر يا من تخلقت بخلق التفقد والاهتمام هذا فهو يفيض جمالا وبهاء ويبرق نورا وضياء، ومن جمالياته الرقراقة وأهميته الدفاقة نذكر منها:
-إن التفقد سنة نبوية تقوي علاقة العبد بربه وعلاقة أفراد المجتمع فيما بينهم،
-فمن لا يتفقد يُفْقد، ومن لا يهتَمْ بالآخرين لا يُهْتم به، لذلك فمن أراد التفقد والاهتمام فليبدأ بنفسه أولا..
-والتفقد يفتح للمسلم بابا واسعا لجمع الأجور والحسنات، فحري بنا العناية به وملازمته كي نحقق مقاصد الأخوة في الله سبحانه. فعيادة المريض والإحسان إلى المحتاج والتفريج عن مكروب كلها فرص لزيادة الأجر والثواب …
-خلق التفقد يساهم في تأليف القلوب بين النـاس ويوحد بينهم ويقويهم،
-ويغرس روح المحبة بين الناس ويوطد العلاقات ويسمو بها …
-وينشر الرحمة والطمأنينة بينهم مما يجعل حياتهم تنعم بالسعادة والهناء
-كما أنه خلق عظيم يرقى بالإنسان ويسمو به إلى أعلى درجات القرب من الله تعالى
إحساسُ الفرد بأهميته وشعوره بالراحة النفسية تجاه من حوله، وكسر الحواجز بينه وبين غيره، وإدخال الفرح والسرور على قلبه، وتخفيف همه وكربه، وحصول الأجر والثواب من الله تعالى.
إن المريض ليستريح إذا اشتكى *** مما به لطَبيبه وخليله
-إلى غير ذلك من الجماليات والفوائد المباشرة وغير المباشرة..
وللتفقد تجليات وأشكال متنوعة يجب علينا التحلي والتزين بها أو ببعضها نذكر منها :
تفقد الوالدين على الدوام بالبر والإحسان قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23].
-تفقد الأهل والأبناء في البيت والمدرسة والمسجد والمخيم والشارع وغيرها كثير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه))؛ متفق عليه.
-تفقد الأقارب وذوي الرحم، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرَّحِمُ معلَّقةٌ بالعرشِ تقولُ: مَن وَصَلني وصلَه اللهُ ومَن قطعني قطعه اللهُ أخرجه مسلم، والرَّحِمُ نوعانِ: عامَّةٌ، وخاصَّةٌ؛ فالعامَّةُ: رَحِمُ الدِّينِ، وتجِبُ صِلَتُها بالتَّوادِّ والتَّناصُحِ والعدْلِ والإنصافِ، وأمَّا الرَّحِمُ الخاصَّةُ فتَزيدُ بالنَّفقةِ على القَريبِ، وتَفقُّدِ أحوالِهم، والتَّغافُلِ عن زَلَّاتِهم، وتَتفاوَتُ مَراتبُ استِحقاقِهم في ذلك.
-تفقد العلماء والمعلمين وأهل الذكر بزيارتهم والسؤال عنهم وحضور دروسهم وسؤالهم والاستفادة منهم: فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «.. وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ، كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ العِلْمِ، بَابُ الحَثِّ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ.
-تفقد الصغار باللطف والرفق والرحمة وتفقد الكبار بالتوقير والتبجيل: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: )ليسَ منَّا منْ لمْ يُجِلَّ كبيرَنا، ويرحمْ صغيرَنا ! و يعرفْ لعالِمِنَا حقَّهُ ( صحيح الجامع
-تفقد الفقراء والمساكين والأيتام وذوي الحاجة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلا بضُعَفَائِكُمْ”؛ (أخرجه البخاري).
-تفقد الشباب ورجال الغد وكل أفراد الأمة بالدعوة إلى الخير والدعاء الخالص لله تعالى قال صلى الله عليه وسلم:” فَوَ اللهِ لَأَنْ يُهْدَى بكَ رَجُلٌ واحِدٌ خَيْرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ”؛ (أخرجه البخاري). ونتفقد إخواننا وأخواتنا في غزة الجريحة غزة العزة والكرامة وننصرهم على عدو الله وعدوهم الكيان الصهيوني الغاصب الظالم ومن والاه بكل ما نستطيع من قوة وتبرع بالمال والتعريف بالقضية بشتى الطرق المشروعة والدعاء لهم وذلك أضعف الإيمان …
-بل وتفقد البهائم والحيوانات الأليفة العجماوات أيضا: (دخلَ حائطًا لرَجُلٍ مِن الأنصارِ فإذا جَملٌ، فلَمَّا رأى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ حنَّ وذرِفَت عيناهُ، فأتاهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فمَسحَ ذِفراهُ فسَكَتَ، فقالَ: مَن ربُّ هذا الجَمَلِ، لمن هذا الجمَلُ؟ فَجاءَ فتًى منَ الأنصارِ فَقالَ: لي يا رسولَ اللَّهِ فَقالَ: أفلا تتَّقي اللَّهَ في هذِهِ البَهيمةِ الَّتي ملَّكَكَ اللَّهُ إيَّاها؟ فإنَّهُ شَكا إليَّ أنَّكَ تُجيعُهُ وتُدئبُهُ) (رواه الالباني، في صحيح أبي داود، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، رقم:2549، صحيح.), وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخَلَتِ امرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ، ربَطَتْها، فلَمْ تُطْعِمْها، ولَـمْ تَسْقِها، ولَـمْ تُرْسِلْها فتَأْكُلَ مِن خَشَاشِ الأَرْضِ.(البخاري ومسلم) …
وختاما فإن خلق التفقد والاهتمام خلق الأنبياء والصالحين ومن اقتدى بهم وسلك دربهم وحري بنا أن نتأسى بهم ونتخلق بأخلاقهم ونتأدب بآدابهم ونتحلى بخلق التفقد لأنه إذا سرى وانتشر في المجتمع يرقى بعلاقاته الاجتماعية وينشر المحبة والثقة بين الناس ويجدب قلوبهم وعقولهم، أضف إلى أنه فن ومهارة وقيمة من قيم القادة الناجحين والسادة المتميزين حيث العناية بالآخرين والاهتمام بهم والسؤال عنهم وعن أحوالهم والحفاوة بهم والتواصل معهم والاطمئنان على أمورهم وحياتهم. وليس من الفضول كما يتوهم البعض والتدخُّل فيما لا يَعنِي؛ بل هو من حُسْنِ الإسلام والإخاء، وكرم الآداب والأخلاق، وشيم الأفاضل الخيرين ذوي المروءة..
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح ويبارك جهودنا وأن يوفقنا للتحلي بخلق التفقد والاهتمام بأمور المسلمين كما نسأله عز وجل أن ينصر إخواننا في غزة و يتولاهم ,وأن ييسر لهذه الأمة ما يحفظ به عليها دينها وينصر به أهل طاعته ويذل به أهل معصيته إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
أحسنت اختيار الموضوع، ويبدو أنك بذلت فيه جهدا، بارك الله فيك.