خواطر الأقصى: ثقافة “السوبر مان” ثقافة طفولية
هوية بريس – د. الناجي لمين
كَوّن الصحابة الذين بَقُوا بالمدينة المنورة (في مقدمتهم الخليفة عمر) مدرسةً علمية؛ طَوَّرها بعدهم الفقهاءُ السبعة، على رأسهم سعيد بن المسيب الذي كان خبيرا بفقه سيدنا عمر وأقضيته؛ ثم جاء بعدهم ربيعة الرأي وأقرانه، والتحق بهم ابن شهاب الزهري.
فلما اشتد ساعد الامام مالك في العلم لخّص علوم هذه المدرسة في الموطأ وفيما نقله عنه تلامذتُه من سماعات. ولقد نقل القاضي عياض في أول ترتيب المدارك عن الامام مالك أنه كان يتَّبع ما عليه أهل المدينة ويُخَرّج ما ليس منقولا عنهم على أصولهم. ولذلك سُمي مذهب مالك بمذهب أهل المدينة.
اما في الكوفة فقد أسس بها عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه مدرسة علمية قريبة الاصول من أصول الخليفة عمر ايضا؛ طَورها أصحابه من بعده؛ ثم آل أمرها الى إبراهيم النَّخَعي، وكان من أبرز تلامذته حماد بن ابي سليمان، وعنه أخذ ابو حنيفة علم ابراهيم. وقد نص ولي الله الدهلوي على ان أبا حنيفة كان عظيم التخريج على مذهب ابراهيم النخعي؛ وكان لا يخالفه إلا في القليل النادر؛ وكان لا يَخرُج في ذلك القليل النادر عما عليه أهل الكوفة، ولذلك سمي المذهب الحنفي بمذهب أهل الكوفة أو أهل العراق.
اما في مكة فقد أَسس الدرسَ العلمي بها عبدُ الله بن عباس؛ ومِن تلامذته عطاء بن ابي رباح ومجاهد بن جبر واقرانهما، ثم آل علمهم إلى ابن جريج وسفيان بن عيينة. وعن تلامذة ابن جريج وسفيان بن عيينة أخذ الشافعي علمَ مكة، ثم أخذ علمَ المدينة عن مالك وعلمَ أهل الكوفة عن محمد بن الحسن الشيباني، وكوّن من خلال الكل مذهبا خاصا به.
وعلى علم هؤلاء الثلاثة تأسست أهم مذاهب الاسلام في الفقه الجامع لما كان عليه الصحابة والتابعون في الفتوى والقضاء بأهم الامصار الاسلامية. وبفضل أتباع هذه المذاهب تأسس علم اصول الفقه وعلم الكلام وعلوم القرآن وعلوم الحديث.. ثم التحق بهم اتباع الامام أحمد بن حنبل في عهد القاضي أبي يعلى الحنبلي. فاستقامت أحوال المسلمين العلمية والقضائية على المذاهب الاربعة. فأصبح خلافُ المسلمين في مشارق الارض ومغاربها قبل دخول الاستعمار يؤول إلى هذه المذاهب الاربعة فقط. بل إن نصف المسلمين كانوا موحدين تحت راية المذهب الحنفي. فكانت ثقافة المسلمين ثقافة الجماعة؛ ولا حَظّ للفرادانية فيها؛ وكل مَن شذ عنها أهمله التاريخ.
وعندما ابتُلِيت الدول الاسلامية بالاستعمار كان الاستشراق قد جهز للمستعمِرين ملفاً علميا وثقافيا عن المسلمين. وكانت الحكمة في نظرهم تقتضي أن تُضرَب هذه الثقافة المبنية على المدرسة والجماعة بثقافة “فرادانية” موجودة عند المسلمين، ثقافة لها بريق في الاستدلال والتعليل، والجدال، والاخذ والرد، والقبول والرفض.. فكان التشحيع على إحياء تراث ابن تيمية وابن القيم كما نقلتُ ذلك عن الشيخ رشيد رضا في منشور سابق. وكان التشحيع أيضا على طَبعِ كتب الصنعاني والقنوجي والشوكاني.. وبَقي فقه المذاهب المُحرَّر مُهمَلا في الكتب الصفراء، بدون نقط ولا فواصل، أو في طبعات حجرية، وقد نِلتُ نصيبا من التعب في قراءتها في السبعينات من القرن الماضي.
وآفة هذه الكتب الفردية عدة أمور:
أولا: أنها ليست مشروعا علميا وقضائيا وثقافيا متكاملا، بحيث يستغني به المسلمون عن غيرهم، فهذه الكتب لا نستطيع تطبيقها في القضاء، ولا نستطيع ان نُكَون بها علماء؛ ولا يستطيع التعامل معها تعاملا سليما إلا العلماء الراسخون.
ثانيا: أنها تُفَرق ولا تحمع؛ لانها مبنية على رفض المذاهب الاربعة التي يتبعها عامة المسلمين.. وبعبارة اخرى: ليس لها اتباع لا من اغلب العلماء ولا من عموم المسلمين، فكيف تكون عامل وحدة.
ثالثا: أنها فردية؛ وليست جماعية.
رابعا: أنها ثقافة غير مشروحة؛ مما يجعلها عرضة لعدة تفسيرات وتأويلات.
خامسا: أنها لا تعير كبير اهتمام لأصل الاجماع، ولا للسنة العملية..
سادسا: أنها أُحيِيت في عهد ضعف المسلمين من الناحية العسكرية والسياسية.
سابعا: انها ثقافة تنقل التقليد من المذاهب الى الاشخاص
ثامنا: انها ثقافة غير مُحَصِّنة؛ ولذلك ترى التكفير والتبديع بين العوام فاشيا؛ وترى بعض الشباب يحمل السلاح ولا يدري مصدره، ويبايع “خليفة” على “الجهاد”، ولا يعرف أصلَه ولا فصلهُ. وبعبارة اخرى: أصبح بعض الشباب اداة بين أيدي سماسرة الرعب، ومافيا القتل والدمار..
تاسعا:….
الله المستعان.