خُوار وجعير علماني حول آيتي الإسراء والمعراج
هوية بريس – محمد بوقنطار
المسلم الصادق الإيمان يقرأ القرآن، ويُطالع السنة، ويتدارس سيرة سيد الخلق، قراءة ومطالعة ومدارسة من يبغي التلقي المنشئ لأثره المطلوب، وأعني به مطلوب التسليم، ومرغوب التنفيذ، إذ لم يكن من مقاصد هذا الإقبال مجرد الاستكثار من الرصيد الثقافي، أو الاستزادة الأدبية أو التحصيل التاريخي أو حتى التغني بالتلاوة لمجرد التلاوة…
والأكيد الأكيد أن بمثل هذا الإقبال المرهون بمقصده والمقيّد بصالح نيته، واجه الصحابة رضوان الله عليهم أمر النبي بالكف عن الخمر بقولهم “انتهينا يا رسول الله”، وألغيت كل أشكال الجور الربوي في المعاملات المالية، واندرست تحت الأقدام الثابتة كل العوائد المقبوحة، كما ذهبت جفاء جل المألوفات الجاهلية.
والأكيد أيضا أن مشروع التنفيذ، ومبدأ التسليم، كلاهما لم يكن بل لم يتسن حصولهما لذلك الجيل التأسيسي الأول دونما عناء ولا مجاهدة، بل جاء في القرآن ما يفيد ويصوّر بعض اللحظات الحرجة التي زاغت فيها الأبصار وبلغت قلوب الصحابة الحناجر وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وظنوا حينها بالله الظنون، كما أفادت سيرة سيد الخلق أن ثمة مواقف جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يفظع بأمره ويبخع نفسه على آثارهم موقنا بتكذيبهم له في ما رواه ورآه من وقائع، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة ففظعت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي) فجلس عليه الصلاة والسلام معتزلا حزينا فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس فقال كالمستهزئ بي: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم)، قال: ما هو؟ قال: (أسري بي الليلة) قال إلى أين؟ قال: (إلى بيت المقدس)، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ ! قال: (نعم)…
والأكيد الآكد الذي لا يعرفه الكثير، هو أن هذا الموقف من أبي جهل وما تلاه من تبني عين الموقف المسجل على كفار قريش، من الذين وصفت الرواية الحديثية وشخصت حالهم ورد فعلهم: (فمن بين مصفق، ومن واضع يده على رأسه للتكذيب مُنكِراً)، هو موقف قد تبنته شريحة من الذين آمنوا بالنبي وكانوا حديثي عهد بكفر، إذ ارتدوا عقب سماعهم لهذه الحادثة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس فيمن كان آمنوا به وصدقوه)، ولعله موقف يحكي أجواء هذا الحدث العظيم في بيئة وسياق زمني استهول أصحابهما ما وقع حينها، حيث اتخذها بعضهم مادة دسمة للسخرية والتشكيك كما هو فعل المتأخرين اليوم زمنا وعقلا، كما ينثر الموقف نفسه تفاصيل الدليل الذي يعضد أن هذا الارتحال النبوي الذي جمع بين آيتي الإسراء والمعراج، كان سفرا بالروح والجسد، وأن الرؤيا كانت واقعية لا حكمية أو منامية، إذ كيف يرتج الوضع المكي وتتخلخل عقيدة بعض الصحابة ويهزأ أبو جهل ويسخر صناديد كفار قريش لمجرد أو جراء رؤية رآها النبي في منامه، وأصبح يحدث بها الناس؟ فأين إذا هو ملحظ الإعجاز والاستثناء واعتقاد المستحيل في هذه الرؤية المنامية؟ ونعني به اللازم وهو تلك السطوة القاهرة التي عصفت بالقلوب والعقول، حيث لم تستسغ تفاصيل تلك الرحلة المعجزة، بل لم يَقْوَ الذهن القرشي ومن بعده بعد حين العقل الحداثي على تحمل الغوص في زمنها المعجز بين: (مِن وإلى) وقد بعدت الشقة بخصوص أمكنة الانتقال فيها سرايةً وعروجاَ.
ولعلهما سؤالان ثقيلا الإشكال نحيلهما ونرمي بثقلهما في حضن المستدركين في اعتساف، والمعتسفين في إرجاف، من القائلين باستحالة بل بخرافية وأسطورة واقعة ارتحال النبي بجسده وروحه في آيتي الإسراء والمعراج.
والحقيقة وأنت تطالع هذه الأزمة وما صاحبها من تداعيات وفتنة كادت تعصف بالمشروع النبوي في مقام الغيب وما ترتب عليه من عبادات نذكر منها عماد هذا الدين أي الصلوات المكتوبات، ينتابك شعور يستشكل في طوره واقع هذا العقل الحداثي المعاصر الذي تناول واقعة المعراج، وفكّر وتدبر في مدى صدق وقوعها من عدمه بذهنية كفار قريش ومعطيات حياتهم أنذاك، حيث كان السفر من مكة إلى بيت المقدس يستغرق على ظهر المتسنى يومها من مركوب الدواب الشهور ذوات العدد، بينما وللأسف فإنك تستغرب وأنت تجد أنه نفس العقل وعين الذهنية التي ما فتئت تتباهى في استبشار وافتخار وتَمَنُّن علينا بما وصل إليه الغرب في هذا الصدد من اختراعات وصل مداها زعما أو حقيقة إلى أن تطأ قدما الرجل الأبيض أديم “العرجون القديم” على متن مركبات وطائرات نفاثة ذوات سرعة عالية…
وإنّما حصل هذا التسفل من العقل الحداثي في التفكير، وفانطبع بالبدائية في تدبير أزمة التصديق أو التكذيب تحت طائلة أو بسبب ما وقع لهذا العقل الحداثي من خلط بين أمر غيبي شرعي لا يمكن أن توزن تفاصيله ووقائعه بالعقل المادي الصرف، وبين أمور وأخبار بشرية يصححها العقل البشري أو يخطئها، ولا ينكر وقوعها تحت سلطان نفوذه إلا أحمق.
والإسراء والمعراج من الآيات التي خُص بها نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وهي حادثة ثابتة بالقرآن والسنة وعلماء المسلمين المعتبرين، فقد بلغت بشأنها الرواية حد التواتر بنص القرآن في سورتي الإسراء والنجم، وبأحاديث نبوية مطهرة وردت في الصحيحين وفي السنن والمسانيد وباقي مصنفات السنة وإجماع المسلمين، ولم يشذ عن هذا الإجماع المحمود حسب مبلغي من الجهد في البحث إلا هذه النابتة المحدثة ونعني بها نابتة القرآنيين، الذين علمنا دأبهم وصفاقتهم كما جهالتهم في إنكار المعلوم من السنة بالضرورة، وعن هذه الفئة الباغية، عاد السند في تلقي هؤلاء المنكرين الجدد لهذه الفرية، فرية إنكار وتخريف هذه الآية الربانية، ومن ثم تعطيل ما نزل به النبي من عند مولاه جلّ جلاله من عبادات و تكذيب ما رآه عند سدرة المنتهى من آيات ربه الكبرى…
وهب أن أحدا من العلماء قد حصل له الإشكال ولم يقل مع جمهور القائلين في الإسراء والعروج بأنه كان بالجسد والروح يقظة، فالإنصاف أن لا ينعت أو يحشر مع معشر العابثين الهازئين، وإنّما يحمل الكلام على مذهب قائله، وذلك طبعا في سياق الاجتهاد الذي يعطيه الأجر الواحد دون الأجرين، سيما وقد بدت الفروق بينه وبين من أنكر وانسحب الإنكار عنده تكذيبا لفرضية الصلاة، ونسفا لما رواه النبي من جملة ما أراه ربه من نعيم الجنة، وجحيم النار، وعذاب البرزخ…
إنني في خضم هذا الضجيج المتعالي هنا وهناك وهنالك، عدت لمطلع آية الإسراء أتدبر لأول مرة اسم فعل الماضي “سبحان” الذي يفيد التقديس والتنزيه، فوجدته هاهنا يفيد تقديسه بقدرته، وتنزيه هذه القدرة عن العجز في الإسراء “بعبده” والعروج به إلى منتهى السدرة.
ولا شك أن من أدرك بقلبه وجارحتي سمعه وبصره شيئا من عظمة الله وقدرته، وفَقِه طبائع الإرسال والنبوّات، وحقيقة أنها طبائع مباينة للمعرفة البشرية تتقاصر عن إدراك كنهها العقول، لم يقع له ريب ولا استغراب في أن هذا الارتحال المبارك وقع وتم بالروح والجسد، وهو الجمع المعبر عنه في سياق الآية باللفظ الذي له دلالته وحمولته ولازمته وهو لفظ “عبده” إذ قال سبحانه وتعالى “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا” ثم حدّد السياق نفسه مسافة مطلع السِّراية ومقطعها على الأرض فقال جل جلاله: ” من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى” ثم جاء الارتفاع والترقي وقد دل مردوف الآية بتعبيره عن المقصد من الإسراء بقوله سبحانه وتعالى: “لنريه من آياتنا الكبرى” وإنما جاءت وكانت الآيات وتسنت في العروج والترقي بمعيّة روح القدس ثم بغيره…
وانظر في الأخير إلى ذلك الثبات العجيب الذي أبداه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه، وبلغ به منزلة الصديقية، بل بقيت بعده تلك العبارات المنهجية ينقلها ويتناقل بياضها الجيل بعد الآخر إلى يوم الناس هذا، وهي قوله عندما جاؤوه ضحى يستهزئون فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ ! قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ ! قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة وروحة…
وكذلك نحن نصدقه في كل ذلك لا ننقص منه مثقال ذرة متى ما علمنا أنه قالها وصح السند والنسبة إليه، ونعلم علم اليقين أن ذلك على ربنا ليسير، وإنّما جاء التصديق منا مبناه على صفتي المُخْبِر أي رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونعني بهما صفتي الصدق فيه والعصمة له، إذ الإيمان بهما يجعل التسليم لخبره سلوكا عقليا صحيحا، وليس إقرارا ارتجاليا تقوده العصبيات وتتحكم فيه الشهوات والشبهات، فينحني تحت ضغوط سطوتها إلى الخرافة والدجل في مقام الخبر.
وإنني في الأخير لأتساءل بعفوية وتجرد عن ماهية ما يمتلكونه هؤلاء المدّعون للحداثة والعقلانية من وسائل وأدوات تجعلهم يفكِّكون تفاصيل الغيب رأي العين للمحسوس ثم ينكرون الخبر في دائرة الغيب نكران العين للعدم المعدوم، اللهم بُغض أدى إلى شك، وشك أدى إلى حيرة، وحيرة أدت إلى حسرة، وحسرة أردفها التشكيك في كل ما له أو فيه رائحة إسلام، وهذا ديدنهم، وتلك سيرتهم، وهذه مهمتهم ووظيفتهم.
ـــــــــــــــ