داعش يلعب ورقة المهدي المنتظر وأحاديث الفتن
مصطفى الحسناوي – هوية بريس
داعش من الخلافة إلى الخرافة
بعد أن خاب أمل الدواعش، في أن يفتحوا روما ويعسكروا بباحة البيت الأبيض٬ تحت قيادة إمامهم الأعظم وخليفة دولتهم وإمبراطوريتهم الكبرى.
وبعد أن اتضح أن كل التهديد والوعيد الذي أطلقه قادة التنظيم يمينا وشمالا٬ ماهو إلا مجرد فقاعات صابونية٬ وتهديدات فرزدقية.
وبعد أن أصبحت كل الوعود والأحلام٬ مجرد أوهام وخيالات صبيانية٬ لمراهقين اعتقدوا أنهم يشاركون في ألعاب إلكترونية، فإذا بهم أمام حروب وتحالفات واستراتيجيات ومخططات ووسائل وآليات لايمكن حتى أن يفهموها، فالأحرى أن يواجهوها.
وبعد أن فشلت أساليب الدعاية والاستقطاب٬ المعتمدة على ترويج الانتصارات وكلمات قادة التنظيم الرنانة٬ وخطب الخليفة الطنانة٬ واعترافات الأسرى المرتجفة المرتعدة، والأناشيد الحماسية، وقطع الرؤوس، وتحطيم التماثيل، ونسف الآثار، وإقامة الحدود وتصويرها وترويجها على أنها إنجاز٬ دون أن يعرف المتلقي تهمة المتهم، وأي محكمة حاكمته وما رده على تلك التهم٬ وهل الأمر فعلا كما يتم تصويره؟ أم الأمر أشبه بأداء لقطة مرعبة في فلم دعائي.
وبعد الانكماش والاندثار والانشقاقات، وتراشق التهم بين فرق التنظيم من حازمية وبنعلية وعوادية وعاذرة وغير عاذرة، وغيرها.
وبعد أن قتل عشرات الآلاف من جنود التنظيم، وأسر منهم الآلاف٬ واستسلم من استسلم٬ وهرب آخرون لدول الجوار٬ بعد أن تدبروا جوازات مزورة٬ وبقي القليل منهم مرابطا على سرير نومه يقاتل دونه كي لايسقط في أيدي الأعادي٬ فقد أصبحت الخلافة العظمى٬ مجرد محافظة صغيرة مخترقة بكل أنواع المخابرات٬ محاصرة بكل أنواع الجيوش٬ كل جندي من جنودها يرابط حول بيته٬ مدافعا عن غرفة نومه.
بعد كل هذا٬ بدأ الترويج على قدم وساق للظهور المهدي قريبا٬ والدندنة حول أحاديث الملاحم والفتن٬ فيما يمكن أن نسميه هروبا من الواقع والتعلق بخيوط للأمل واهية.
فقد لجأت مجلة النبأ الناطقة باسم التنظيم، منذ ثمانية أسابيع، إلى نشر سلسلة حلقات أسبوعية، عن أحاديث الفتن وظهور المهدي. العدد الأخير من المجلة، تطرق في الحلقة الثامنة لهذه السلسلة، لجانب من هذه القضية، لرفع معنويات جنوده، وتثبيتهم.
وقبل أزيد من شهر، أصدر مركز الحياة التابع للتنظيم، نشيدا مرئيا تحفيزيا تحريضيا، بعنوان: “ياكفار العالم”، كلمات النشيد وإن كانت موجهة لدول التحالف وشعوبها، تهديدا ووعيدا، إلا أنها موجهة أيضا لعناصر التنظيم وجنوده وأنصاره والمتعاطفين معه، بالعزف على أوتار ظهور المهدي ونزول المسيح، وأن أتباع التنظيم هم من سيكونون جنودا للمهدي المنتظر، وماعليهم إلا التشبث بما هم عليه، ونشره بين الناس.
لا أريد التوقف طويلا عند عقيدة المهدي، الموجودة في شرائع وثقافات أخرى، تحت أسماء المبشر، المنذر، المنقذ، المخلص، المصلح، المنجي… ولا عند انتظار المسلمين واليهود والنصارى كلهم، رجلا يظهر في آخر الزمان، واتفاقهم على أنه سيقود المعركة الكبرى والأخيرة، التي ينتصر فيها دينهم، ويدمر عدوهم.
لا أريد الخوض أيضا في مهدي السنة ومهدي الشيعة، ولا نسخ المهدي التاريخية المزورة والمتكررة، التي ظهرت منها عشرات النسخ على مدى قرون، ولا آلاف مرضى اضطراب الفصام، المرض النفسي الذي يدفع صاحبه للاعتقاد أنه هو مخلص البشرية.
ما أريده في هذه الدراسة هو تسليط الضوء على خطاب “داعش” في هذه المرحلة، واعتماده أحاديث الفتن والملاحم، كنوع من إبقاء الأمل والمدد.
أحاديث الفتن والملاحم أي جديد؟
كثيرة هي الدعوات، التي اعتمدت على حديث أو جزئية أو عقيدة ضمن أحاديث الفتن، في بداية انطلاقها، إما لإضفاء المشروعية على حركتها ودعوتها، أو لاستقطاب الأنصار والأتباع، أو لبث الرعب في الخصوم والأعداء…
كدولة العباسيين في بدايتها، التي أقامت دعوتها على أحاديث الرايات السود، والدولة الموحدية أقامها زعيمها المهدي ابن تومرت على أحاديث المهدي… ثم بعد أن تمكنت تلك الدول رمت بتلك الدعوات والأحاديث جانبا بعد أن استغلتها استغلالا، ثم انقضت تلك الدول وعلم الناس أنها ليست المعنية بتلك الأحاديث وتلك المعتقدات.
جديد “داعش” هو أنها تستعمل ورقة أحاديث الفتن والمهدي، ليس في بدايتها، بل في أفولها واندثارها، لكن أي فرق يشكل ذلك؟
صحيح أن داعش استعملت في بدايتها أحاديث ومعتقدات أخرى، هي أحاديث عودة الخلافة على منهاج النبوة، وأنها هي التي تمثلها، فاستقطبت من الشباب المسلم المتعطش لدولة إسلامية قوية مستقلة، الآلاف المؤلفة، ومعلوم أن ما يعرف في الفكر السياسي الإسلامي، بالخلافة الثانية، لا علاقة له بخلافة المهدي، فالخلافة الثانية كما في أدبيات الفكر السياسي السني، هي خلافة راشدة، على خطى الخلافة الراشدة الأولى، تبنى بأيدي المسلمين الذين يختارون حاكمها، فترجعهم لسابق عزهم وتوحدهم في دولة واحدة، وتستعيد ماضاع من مقدسات. لكن خلافة المهدي هي إحدى المعجزات التي تقع آخر الزمان، تقع فجأة بدون مقدمات، حاكمها اختاره الله وانتخبه وقضي الأمر.
إن داعش باستعمالها لهذه الورقة وهي تحتضر، تريد أن توهم الأتباع والجنود والأنصار، أن الخلافة الراشدة الثانية، تمت على أيديهم وانتهى أمرها، وأن المرحلة الثانية هي مرحلة خلافة المهدي، وأن مالم يحققوه بقيادة البغدادي، سيحققوه قطعا بقيادة المهدي، فما عليهم إلا الصبر والثبات والقتال بضراوة وشراسة وتوحش، واستقطاب المزيد من الأتباع والمتطوعين، فهو مشروع واحد، استكملت مرحلته الأولى، وسيتم باستكمال مرحلته الثانية.
كما أن الحديث عن الفوضى والقلاقل والاضطرابات الواقعة في الشام في أيامنا هذه، على أنها هي المقصودة في تلك الأحاديث، يجعل التنظيم يقدم نفسه على أنه هو ممثل الحق في هذه المعركة، متحكما أدبيا ومعنويا، في نهايات العالم، لأنه مطلع على تلك السيناريوهات وتفاصيلها، وبالتالي مسيطرا على نفسيات وعواطف ضحايا جدد من الشباب المسلم، الذي يريد أن تكون نهايته على تلك الأراضي المقدسة والمباركة، والذي يريد أن يكون له دور وبصمة في صناعة نهاية للعالم.
مخاطر الهوس بأحاديث آخر الزمان
عاش المسلمون ملاحم وفتنا ولم يحاولوا إسقاط تلك الأحاديث على واقعهم، فقد تقاتل الصحابة قتالا شديدا في تلك الأراضي بين الشام والعراق، ولم يقل أحد أن هذه الفتن دليل على قرب المهدي أو قرب قيام الساعة، رغم أن نصوصا كثيرة كانوا يعرفونها عن قرب الساعة (بعثت أنا والساعة كهاتين) (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر)، وحين اقتتل علي ومعاوية، ومعاوية حينها بالشام، لم يستغل هو وأصحابه، الأحاديث التي تتحدث عن فضائل الشام، من قبيل: “الطائفة الظاهرة التي على الحق والتي ستكون بالشام”، وحديث أن “الإيمان حين تقع الفتن، يكون بالشام”، وغيرها من أحاديث الفتن والملاحم وفضائل الشام. كان هذا في وقت كان المسلمون أقرب عهد بالإسلام وبتفسيراته ومقاصده.
لكن حدث في عصور الانحطاط والانهزام، أن فهم بعض العلماء، واقعهم على ضوء تلك الاحاديث، ففسروا حروب التتار والصليبيين وحملاتهم، على أنها الفتن والملاحم، التي تكون آخر الزمان وقرب قيام الساعة، ومع ذلك لم ينته الزمان ولم تقم الساعة، ومرت قرون كثيرة، وانتصر المسلمون بعدها، ثم انهزموا، ثم انتصروا ثم انهزموا… ولاتزال الحياة مستمرة.
واستغلت بعض الجماعات والدعوات، أحاديث الرايات السود والخلافة الراشدة وأحاديث المهدي، وأسقطتها على مشروعها وقادتها، وأوهمت أتباعها أنها هي المقصودة بتلك البشارات والنبوءات، حدث ذلك مع جهيمان العتيبي، الذي كان أتباعه يعتقدون أن الملائكة ستظللهم بأجنحتها، وأن النصر قاب قوسين، ثم استفاق المغفلون، على رصاص الجنود الفرنسيين يبيدونهم مثل الحشرات، ثم تكرر الغباء مع عدد من التنظيمات التي تلت حركة جهيمان، فاستعملت جماعة أحاديث الرايات السود الخارجة من خراسان، واستعملت أخرى احاديث القحطاني الذي سيمهد للمهدي، واستعملت ثالثة أحاديث مدد اليمن وجيش عدن أبين…
كلما قامت حركة أو جماعة، حاولت العزف على الأوتار الحساسة، لدى الأتباع المغسولة أدمغتهم، بأحاديث مماثلة، قبل أن يستفيقوا على واقع لاعلاقة له بما يعتقدون، لكنهم للأسف يستمرون في إجراء تلك الإسقاطات.
لقد تعامل المسلمون في ما مضى عموما، مع تلك الأحاديث، على أنها من أخبار النبي التي ينبغي تصديقها، ولم يتجاوزوا ذلك، لم يفرعوا عليها أحكاما أو فقها، لم يهتموا بها هذا الاهتمام المرضي، الذي يجعل المسلم ينسحب من الحياة وينتظر النهاية. يجعل تلك الأحاديث نبراس حياته، يفسر كل حركة أو سكون على ضوئها، يتعامل مع الآخر على ضوئها، يبرمج حياته على ضوئها، ولايكون له أي دور في الإنتاج أو الإصلاح، لأنه ينتظر نهاية العالم، أو يساهم في إنهائه، فيقتل ويخرب ويفجر باسمها.
إن هذا الاستعمال المكثف من داعش لهذه الأحاديث، هو وسيلة دعاية واستقطاب وتجنيد جديدة، غرضها إبقاء جذوة الحماس مشتعلة لدى الأتباع، فهي آخر أوراق هذا التنظيم إذا تم تكثيف المواضيع التي تفضح أساليبه وتسحب البساط من تحت أرجله، بوضع تلك الأحاديث في سياقاتها والتعامل معها بمقاصدها وحجمها الحقيقي وتوعية الناس بهذا التراث وفتح نقاش بخصوصه، ماعدا ذلك فإن نجاح داعش في الاستئثار بهذه الأحاديث والاستحواذ عليها، وتقديمها للشباب بعد تطويعها ولي عنقها وتفسيرها، لتخدم مشروع التنظيم، سيجعلنا أمام مرحلة أخرى ونسخة داعشية أخرى، أشد حمقا وجهلا وغباء وعنفا وتطرفا.
للتواصل: مصطفى الحسناوي