دة.صفية الودغيري تكتب: كتب الحياة
هوية بريس – دة.صفية الودغيري
إنّني ما زلت أتوقُ كلّ عامٍ جديد إلى موكب القراءة الشَّديد الالْتِحام بالحياة والنّاس..
وما زلت أقرع أبوابها، وَأُسَرّ ببشائرها وأطياف شموعها، وأُسْلِم روحي حين يلتحم قلمي بسطور حياتي وحياتها..
وإنّني ما زلت كلّ عامٍ جديد أقرأ في كُتب الحياة بشغفٍ وعشقٍ فريد، وأقرأ في كُتب الأيّام وما يمرّ ويمضي من ساعات العمر، وأقرأ في كتب الأفراد والجماعات، وأتامَّل في أجناس البشر والخلائق، وأسبر أغوار التَّجارب، وما اكتسبت من الخِبرات..
وأُمْعِن النَّظر الطّويل فيما سلف وما أستقبل من المواقف وردّات الأفعال والأقوال، وما جرى ويجري من التَّقلُّبات في السُّلوك والمعاملات، وما جرى ويجري من الأحداث، ونزل وينزل من النَّوازل، وما عشته ويعيشه غيري من اللَّحظات السَّعيدة والجميلة، واللَّحظات الحزينة والكئيبة..
فأجدها هي وحدها من تمنحني الإلهام الحقيقي، والإحساس الصّادق الخالص، وهي من تبعث في خَيالي السّعة والرّحابة والانْفساح، وتشعل شرارة الإبداع، وتولِّد باكورة الدَّهشة والإعجاب، وترسل التَّعبير الحُرَّ الطَّليق أمام كلّ موقف نزاعٍ أو تراضٍ، وهي من تثير الاعْتِبار في سنن ونواميس الأَخْبار، وهي من تفكُّ قيود الحروف، وتكسر طوق الكلمات الحبيسة في قبو النٍّسيان والإهمال..
وهي من تعيد إلى قلمي شغف ووهج وبريق الكتابة، وهي من تشحذ زِناد همَّته ليكتب الأجمل والأروع، وما شاء الله له أن يكتب بلون الحياة الأبيض والأسود، وألوان الطبيعة وفصولها..
ومهما قرأت من كتب التُّراث والعلم والأدب…، ممّا يحار فِيها الإِدْراك واللُّب، ويموج في بحرها الِاعْتِبار، أجد نفسي أمام كتب الحياة أَسْترِق السَّمع لأسرارها، فلربّما أجد في إطالة السَّمع والنَّظر إليها أليفًا أو سميرًا أنيسًا، يتفتَّق له المجاز والحقيقة عِنْد الِاخْتِصاص بمعرفة نفسي وقلمي والآخر، والامتياز بما يكبح الرُّكود، ويحرِّك الصَّبيب ويجري عذبة اللِّسَان والقلم، ويطلق عناني لرياضة الْأفكار والمعاني كي لا يقتطعها الإغفال، وتشنِّف دُرَرُها القرّاء ..
فإهمال القراءة في كتب الحياة وكتب العلم والتراث يجعل الأقلام تصدأ فوق مصاريعها الأقفال..
والإقبال على بساتينها المشَوِّقة وأفانينها العجيبة بقوّة وعزم وهمًّة، هو الحافز والدّافع إلى التَّشمير للرّحيل في جنانها المعشوقة، والسِّياحة في رياضها وحدائقها وبساتينها، والغوص في أنهارها وجداولها وبحارها ومحيطاتها، وإمتاع النَّظر في كواكبها ونجومها وأقمارها وشموسها، ومجرّاتها السّابحة في أكوانها وفضاءاتها..
أما الإكثار والإسراف في الكتابة مع العزوف عن سبر اغوار القراءة، هو إضرارٌ بالفكر والقلم، ومحقٌ لبركة العلم، وحَسْر المقاصد في بلوغ الغايات العاجلة والآراب الفانية..
وما أبلغ ما قاله لسان الدين ابن الخطيب في مقدمة كتابه: “ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب”:
(وَلَو سلم جمُّه، لزخر يمُّه بِمَا يلْزم حَمْدُه أَو ذمُّه، ويتَوَجَّهُ إلى الإجادة أَو ضدِّها مامه، فالإكثار مَظَنَّة السَّقط، وطَرْق السَّهْو والغلط، من لَوَازِم اللَّغط…
وأنّى لمثلي من بعد البياض بأزهار الرٍّياض، وعلى مشاورة الارْتِياض، بارْتِشاف تلك الحِياض. فقد كان أولى بى الإِضْراب عَمَّا زوَّره السَّراب، والاقتراب إلى من تنال بقربه الآراب، قبل أَن يستأثر بعده الجَوارِح المَعارَّة التُّراب، والإطلال على الطية والإشراف، وخلط الِافْتِراق بالاعتراف، والسَّداد بالإسراف..).