دة.صفية الودغيري تكتب: مذكرات بنت البادية
هوية بريس – دة.صفية الودغيري
إنَّها حروف الحياة القاسية تَخْفِق في محراب الكلمات المَضْمومَة على شفاهٍ مُطْبقَةٍ على صمتٍ آسِرٍ لحَناياي الثّائرة..
تُعيد طَقْطَقاتِ الحطب في مدفأتي، تُغْري حَوافِر الخيل فتركض بأحلامي حيث أشاءُ أن أمضي، وتبعث طرقات الإلهام وتملأ فراغ ذاكرتي..
لتَسْري رَهْبةُ الحِبْر المُراقِ دفقًا على بياضٍ يلتحف البياضَ في مخيِّلتي ..
ويتفجَّر صبيبًا يرطِّب كحل العيون فتسكب شلاّلها المنهمر على خدّي، يسقي صفحات أفراحٍ تسدل ستارها الكثيف على مواجعٍ تمخض في رحِم مواجعي..
ليطرق سمعي حَفيف أشواقي اللاَّهِثة من عطشٍ يستجدي رَواء محبرتي، قد تجمّد في مجاريها وعروقها الكلام الصَّدّاح، وخرس لحنه الشّادي..
عساني أعيد إلى الشِّفاه تمتماتي الحَييَّة، وأشرّع نوافذ آمالي وأستقبل مطامحي الرَّاحلة عنّي..
ليُشْفى هذا الصّدر السَّقيم من انتظارٍ يعقبه انتظارٌ طويل..
لتنبعث الخطوط السّوداء من حدادٍ يروي للرُّفوف كيف يُصاغ الحداد قهرًا وجورًا؟!!
وكيف يَزْدان البياض بحمرة الورود وألوان الفصول، وأودِّع فصلي البارد والخريف؟!!
وكيف ترحل الدّمعات والبسمات في عناقٍ يعصرني ويلمّ شتات أيامي ؟!! وكيف ترحل الأحزان عنّي إلى منفى أولئك الفارِّين من إعصار صواعقي المرسلة وصرخات تمرُّدي وصمودي والتَّحدّي؟!!
لتهَب روحي الثَّكْلى بِضْعَ أنفاسٍ تنتَظِم في عِقدي الموصول بجهادٍ وكبدٍ، ونصبٍ موصولٍ بخيطٍ لا يفصِلني عن واسطَة الوفاق بين شقّي الأيمن والأيسر ..
لتسطع على المُحَيَّا الخَجول أنوار الحياة البهِيَّة، ويَمْتزِج الحِبْر بجمار الدّم، وقُطار الكحل بالدّمع..
ليكتب القلم وينظم قصائدي غير المعلَّقة..
ليسرد قصصي وحكاياتي على من ينشب أظافره في مواقد صبري، ليخلّد تاريخ مولدي الذي وأدوه وصلبوه، ثم أفسحوا للأقلام أن تنصب تذكارها العربي، وترفع أعلامها مجهولة الهُوِيَّة..
ليصنع القلم ألف قلمٍ عربيٍّ ينتصب شموخًا وكرامةً وشرفًا وعزًّا..
لتكون لغتي وطنًا يحتويني مِلْءَ ما في بواطني وأحشائي وذاكرتي، وملء ما في دهاليزي من اكتضاض أسراري وشَكْواي وصرخاتي، ونَجْوى أحاديثي بطرازها العربيِّ الأصيل..
لتنتفض أركاني والزّوايا على تصَدُّعات الخَبايا في الزَّمن القديم، ويُرَتِّق قلمي تشَقُّقات فصولي الثّائرة على أربعة فصول..
لتتفتَّح نبضاتي بين انكسارٍ يجبر انكسار أضلعي، وتتفتّح كأحْداق الزَّهْر بلله النَّدى وعطّره الرَّبيع..
لتغَرِّد البشائر الآتِيَة من أقصاي البعيد، وتملأ الرَّياحين والورود الزَّكيّة عتمات صدري وسطري..
لتكتب رسائلي مُطَرَّزَةً بطِراز عمري السَّليب، وتعيد لأبواب منازلي الخشبيًّة العتيقة مساميرها الصُّفر، وتزيِّن المصابيح دهاليزي وصحونَها الفسيحة..
لترتفع الأغاريد ويصدح خَرير المِياه في بِرَكي ونَوافيرِ حياتي..
وأعود إلى بداية التهجّي بنطق وكتابة الحروف بلا عجمة، ولا رعدة الخوف يهزمني ولا استبدادٍ يقتنص مولدي ومولد الحروف على صفحاتي..