دجالون مثقفون
هوية بريس – ياسر أنور
لاشك أن كتابات ما بعد الحداثة قد أحدثت شرخا كبيرا بين الفلسفة و العلم، كان من نتيجته بروز قطبين متحاربين حول قيمة ما يمثله كل منهما في حقول المعرفة الإنسانية. فإذا كان كتاب ما بعد الحداثة يرون أنه لا يقين علمي على الإطلاق، وأن العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء ليست إلا أيدلوجيا ترتبط بسياقها الاجتماعي والثقافي الذي أفرزها، فإن المعسكر العلمي لا يعترف بتلك الكتابات الحداثية والفلسفية التي يصفها بالعبثية، وأن بعض الكتاب الكبار مثل جاك دريدا Jacques Derrida و جان فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard وجوليا كريستيفا Julia Kristeva وغيرهم يمارسون نوعا من الدجل الثقافي. وقد بلغت الحرب بين الفريقين ذروتها عندما قام عالم الفيزياء ألان سوكال Alan Sokal بإرسال مقالة إلى مجلة Social text عام 1996م ، بعنوان: “Transgressing the Boundaries: Towards a Transformative Hermeneutics of Quantum Gravity
“تجاوز الحدود: نحو تأويلية تحولية للجاذبية الكمومية. (وهو عنوان ضخم ومتهكم على عبارات ومصطلحات ما بعد الحداثة)، يقترح فيه أن الجاذبية الكمومية ما هي إلا بنية لغوية واجتماعية، وأن نظرية الفيزياء الكمومية تدعم وجهات نظار مفكري ما بعد الحداثة في نقدهم للموضوعية العلمية Scientific Objectivity. وبعد نشر المقالة، يكشف ألان سوكال الخدعة hoax التي قام بها ضد المجلة الشهيرة، ليثبت أن مفكري ما بعد الحداثة مجموعة من الكسالى والعبثيين الذين ينشرون مقالات تافهة بعبارات رنانة دون مضمون علمي حقيقي بهدف استمرار المعركة مع العلم الحقيقي، وأنهم مجموعة من اليساريين الذين تم توظيفهم لهدم حقائق العلم. ولم يكتف ألان سوكال بذلك، بل قام بالتعاون مع العالم الفيزيائي جان بريكمونت Jean Bricmont بإصدار كتاب “دجالون مثقفون” أو “محتالون مثقفون” impostures intellectuelles باللغة الفرنسية في فرنسا عام 1997، ثم نشره باللغة الإنجليزية بعنوان intellectual imposters عام 1998م. وقد تهكم فيه المؤلفان على العلم المزيف والمصطلحات العلمية الخاطئة التي يستخدمها كثير من الكتاب والمفكرين و الأدباء الفرنسيين في كتاباتهم اللغوية و الأدبية بدافع التظاهر بالمعرفة الواسعة. وقد تعرض المؤلفان بالنقد والهجوم على جوليا كريستيفا و جاك لاكان وجان بودريار وغيرهم متهما إياهم بالجهل العلمي.
ويبدو أن المؤلفين اختارا نشر الكتاب في فرنسا أولا باعتبارها البيئة الحاضنة لكتابات ما بعد الحداثة التي نشأت على أيدي كتاب فرنسيين ثم انتشرت في أوروبا و الولايات المتحدة. وقد انقسم أيضا الموقف النقدي تجاه الكتاب إلى مؤيد ومعارض، وتم استقطاب المجتمع العلمي و الثقافي، فمفكر مثل نعوم تشومسكي أثنى على الكتاب موجها نقدا لاذعا للفكر اليساري وموقفه من العلم. بينما هاجم دريدا – باعتباره أحد كبار منظري ما بعد الحداثة- هاجم الكتاب هجوما عنيفا، مذكرا سوكال بخدعته المشينة Sakal’s hoax مع مجلة social text.
لقد انهارت إذن فكرة اليقين بكل حقولها المعرفية، اليقين العلمي واليقين الثقافي و اليقين السياسي، الأمر الذي يجعلنا لا نندهش إزاء موقف الرئيس الفرنسي “ماكرون” تجاه أزمة الإسلام، بينما الأزمة الحقيقية هي أزمة فرنسا التي لم تستطع أن تواجه بفلسفتها وحداثتها منظومة القيم الإسلامية في عقر دارها تلك القيم التي تنتشر يوما بعد يوم معلنة تراجع المشروع الحداثي الغربي المزيف. وهو ما يجعلنا نستدعي الكثير من مواقف المثقفين العرب المتشنجة والتي تمارس (الاستعلاء العلمي المزيف أيضا) ترويجا لأفكار استبدادية بدعوى محاربة التخلف والجهل و الظلامية، وكل هذه المصطلحات بضجيجها الأجوف تنطبق على كثير من هؤلاء المثقفين الذين يمارسون هذا العبث بهوية الأمة وتاريخها وتراثها، وما هم إلا أبواق تافهة كرست لحالة التخلف الحضاري، إنهم إذن “دجالون مثقفون” بتعبير سوكال وبريكمونت.