دحمان يكتب: التطبيع.. مقاربة في المفهوم

22 سبتمبر 2025 13:50

هوية بريس-ذ. عبد الإله دحمان

يشكّل مفهوم التطبيع أحد أكثر المفاهيم إثارة للجدل في المجال العربي والإسلامي خصوصا في ظل توقيع الاتفاقات الابراهيمية ، ومنها الاتفاق الثلاثي المغربي . إذ ارتبط هذا المفهوم تاريخياً بالقضية الفلسطينية وبالصراع العربي الاسلامي –الصهيوني، ولا علاقة له بالموقف العام من اليهود واليهودية ، غير أنّ دلالاته تجاوزت هذا السياق لتشمل كل أشكال “ترويض الوعي الجمعي” على قبول وجود غير مشروع، أو إضفاء شرعية على علاقة غير متكافئة. ومما زاد حدة منافسته ارتباطه حاليا بعملية صهينة مباشرة تخترق النسيج الا جتماعي والسياسي والاقتصادي والنفسي ، اي محاولة انتشار كلي في الفضاء العام . من هنا، فإن التطبيع ليس مجرد قرار سياسي، بل عملية مركبة لها أبعاد نفسية، ثقافية، تربوية واقتصادية. إنه انتشار مدروس للاستيلاء على الفضاءات المفتوحة أمامه دون مناعة .
وعليه حرصت المعاجم العربية أن تعطي للتطبيع معنى “إرجاع الشيء إلى طبيعته”. لكن استعماله السياسي الحديث يشير إلى جعل العلاقات مع كيان استثنائي (الاحتلال) علاقات عادية، كما لو كانت طبيعية. وبذلك، يصبح المفهوم مشحوناً بمعنى الإلغاء: إلغاء الاستثناء والجرح التاريخي والذاكرة المقاومة والدم المراق
لإقامة علاقات ذات أبعاد سياسية أو اصطلح عليه التطبيع السياسي من خلال إقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني . أو من خلال التطبيع الاقتصادي الذي يسهل عملية الانخراط في تبادل تجاري أو مشاريع مشتركة معه. ثم التطبيع الثقافي والتربوي وهو الاخطر لانه يمس البنية الفكرية والنفسية ، من خلال تليين الوعي وقبول روايات العدو وسردياته عبر التعليم، الفن، الإعلام، التبادل الأكاديمي والبحث العلمي وغيره . مما يضفي على التطبيع سمة الية لاعادة تشكيل للوعي واخضاع الذات الرافضة للكيان عبر بناء سرديات مزيفة مخاتلة. وبالتالي واهم من يعتقد أن التطبيع مجرد “توقيع اتفاقية” أو “زيارة مسؤول”، بل هو عملية طويلة الأمد تهدف إلى تغيير البنية الذهنية للمجتمع وإعادة صياغة المفاهيم والمشاعر والتمثلات وبتاء الحاضنة الفكرية لزرع الكيان وذلك عبر استبدال مفهوم “الاحتلال” بمصطلحات أكثر حياداً مثل “النزاع”. والعمل على خلق نخبة داخل المجتمع تتبنى الاحتلال ككرف في معادلة المجتمع الواحد تحت يافطات خادعة للوجدان والوعي البسيط . ومن ثمة إضعاف الذاكرة التاريخية من قبيل تغييب النكبة والمجازر وتزييف تاريخ المآسي مع الكيان الصهيوني ، وهو ما لاحظنا محاولة تسريبه عبر المقررات التعليمية والمناهج التربوي وبعض الانتاجات الفنية ومقالات بعض الموالين للكيان .
فالكيان الصهيوني عبر وكلائه في المنطقة العربية والإسلامية وفي الاعلام خصوصا ، اصبح يعتمد على استراتيجية تواصلية تسعى إلى تكريس سرديات قوامها إنتاج خطاب مموّه لتقديم الاحتلال كشريك في “السلام” أو “التنمية المشتركة” أو المصلحة الامنية . لذلك فجدلية “الطبيعي” و”الاستثنائي”
في خلفية مفهوم التطبيع عميقة ، فعذا الاخير اي التطبيع يحاول جعل ما هو استثنائي (وجود كيان استعماري استيطاني) طبيعياً وعادياً. إنه إلغاء للفارق الأخلاقي بين الضحية والجلاد. ومن هنا، فإن رفض التطبيع ليس مجرد رفض لعلاقة سياسية، بل هو دفاع عن معنى العدالة والحق في الوجود.

يمكن القول إن مفهوم التطبيع يتجاوز بعده السياسي ليغدو مشروعاً لإعادة هندسة الوعي الجمعي، والسيطرة على خريطة العقل والتفس ، وتحويل الاحتلال من “جرح مفتوح” إلى “حقيقة عادية”. لذلك، فإن مقاومة التطبيع لا تعني فقط مواجهة سياسات الحكومات، بل تعني أيضاً تحصين الثقافة والتعليم والإعلام من أي اختراق يجعل الاستثنائي طبيعياً والظلم عادلاً.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
18°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة