دردشة حول سؤال: (أيهما أصعب: العلم الشرعي أم الكوني؟)

هوية بريس – د.البشير عصام المراكشي

الحق أن هذا السؤال إلى الترف الفكري أقرب، فصعوبة الفكرة ليست دليلا على صحتها، وصعوبة العلم ليست دليلا على أفضليته. ومن الفلسفات الإلحادية المنقطعة عن الوحي ما هو صعب في ذاته، خاصة في قلم من يتحرى تعسير الخطاب، ثم هي فلسفات حقها أن تطوى فترمى!
📌ثم نقرر ابتداء أن هذه المقارنة:
🔸️يجب أن تحذف ما ليس من صميم العلم، وإن كان ملازما له في الغالب، أو يطلب أكثر الناس ملازمته له.
فمعاني التقوى والورع والنزاهة والصدع بالحق ونحوها مما يدخله بعضهم في مفهوم العلم وليست منه، لا يصح إدخالها في مثل هذه المقارنة.
🔸️يجب أن تكون مع تثبيت المعايير الأخرى وذلك على قاعدة (ceteris paribus) وإلا كانت مقارنة مجحفة.
فلا يمكن مثلا عقد المقارنة بين عالم كالشافعي او ابن تيمية وطبيب أو مهندس معاصر ليس أحد منهما عالما في مجاله؛ ولا بين عالم كنيوتن أو أينشتين ودكتور شريعة غير معدود ضمن علماء الشرع.
وأكثر الأخطاء في المقارنة، تأتي من مثل هذا التطفيف.
📌إذا علم هذا، فمن خلال تجربتي الشخصية في المجالين أقول: ليس أحدهما أصعب من الآخر، بل هما مجالان مختلفان، يلائم كل منهما نوعا من الناس دون غيرهم. ولذلك قد أحدّث العالم الشرعي بمسألة رياضية فلا يحسن تصورها، وأحدّث زميلي المهندس بالقضية الشرعية فيحار في فهمها. والسر كامن في اختلاف المزاج والاعتياد والمؤهلات، ولا علاقة له بالذكاء.
📌ومن أسباب الغلط في المقارنة، أن العلم الشرعي اليوم صار محسوبا في الدراسات الأكاديمية على مجال الأدب لا العلم، فصار لا يتوجه إليه – في الغالب – إلا من تعسرت عليه العلوم الكونية، فظن من ظن أن العلم الشرعي في ذاته أسهل من العلم الكوني، وليس كذلك.
وخذ علم المنطق مثلا فإنه صار كالأساس لكثير من علوم الشريعة كالكلام والأصول وغيرهما، وهو أيضا من أسس الرياضيات. وقد درستُه في المدرسة مرموزا ضمن الرياضيات، ثم درسته بالطريقة القديمة ضمن علوم الشريعة.
📌وأيضا من أسباب الغلط: ظن بعضهم أن العلوم الشرعية تنال بالحفظ، والعلوم الكونية بالفهم. وهذا خطأ فيهما معا. ففي الشرعيات مجال كبير للفهم، لكن تسلط عليها مَن حوّلها عن مسارها إلى جهة الحفظ وحده، حتى صار العالم عندهم مرادفا للحافظ. وفي علوم الكون مجال للحفظ كبير لا ينكره إلا مكابر.
📌ومن أسباب الغلط: جعل عدد سنوات الدراسة معيارا للصعوبة، فيقول القائل مثلا: المهندس لا يدرس عندنا إلا خمس سنوات بعد الباكالوريا، وأما دكتور الشريعة فقد تصل دراسته إلى نحو أحد عشر عاما في أقل الأحوال.
وهذا لا يأخذ في الاعتبار أمورا:
. أن المقارنة بين المهندس ودكتور الشريعة ليست مقارنة بين عالِمين ولا عِلمين.
. وأنها لا تعتد بالانتخاب الأولي، فولوج مدارس الهندسة أصعب بكثير من كليات الشريعة، بل لا تصح المقارنة.
. ولا تعتد بصعوبة الدراسة. فقد دلتني التجربة الشخصية على أن السنة الأولى من مسار الهندسة (وهي الأولى من الأقسام التحضيرية عندنا) تفوق في الصعوبة سنوات كلية الشريعة مجتمعة بمراحل كثيرة.
وفي الجعبة كلام أكثر من هذا، لعل له مجالا آخر.
والله الهادي.