درس في الكتابة والأدب
هوية بريس – صفية الودغيري
وأمام تلك السيدة التي تعودت أن أصغي لسرد حكاياتها ونظم فصول قصصها كنت أنسى أنَّني الكاتبة وأنسى قلمي وعلبة ألواني..
لقد صِرتُ أمامها أنا القارئة التي أَتعلَّم من أحاديثها أبجَدِيَّات القراءة، وأَنْسُج أفكارًا أُحَرِّرها وأبعث فيها روحها وحياة أخرى تَتنفَّس على بياض الورق بأنفاسها..
وتَعلَّمتُ كيف أقرأُ ذاتي معها، وأُصْغي لحديث روحي وأنا أُصْغي لحديث روحها، وصرت أشعر وأفكِّر بروح القارئ والكاتب معا، وأشاهد مشاهدة القلب الحيّ والعقل اليَقِظ، وأن أكتب لا لأُرْضي غروري وعشقي للكتابة، بل لأرضي ضميري الصَّاحي..
وصرت أكتب بحِبْر دمي لا بحِبْر قلمي، لأنَّ حياة الكاتب تشتمل على كلِّ ما تقع عليه عينه، ويلمسه خياله، وتدركه حواسُّه وعواطفه، فيعانق أعماق الحياة ولا تكفيه كي يكتب كلّ تفاصيلها..
وتَعلَّمت من دروسها ودروس حياتي أنَّ من يكتب عليه أن يفكِّر طويلا في أحاديث النّاس ويؤمن حقّا وصدقا ويقينا بمعاناتهم، ويكتسب الجرأة الكافية كي يدافع عن قَضاياهم وينتصر لوجودهم وحقهم الشرعي في أن يتمتعوا بالحياة الحرة الكريمة بكل ما أوتي من علم وفصاحة وقوة بيان ولسان..
وأنّ من يكتب عليه أن يَقْتات من الأفراح والأحزان، فيهتزَّ شريانه الطَّموح لتلك الهزّات والتقلبات، وينجب لكلِّ فصل حقيقة كبرى تستحقُّ البقاء والخلود في ذاكرة الأمَّة، لأنَّها من إنتاج الحياة الصَّعبة ومخاض الشَّدائد المتتالية التي تصنع الأفكار العظيمة والكتابات الخالدة..
فالكاتب مهما أدمن القراءة في الكُتب فلن يصل إلى احتواء الحقيقة الكاملة إلا إذا خاض معارك الواقع، وحارب بسلاح القلم في ميدانه وجاهد في ساحته، وتذوَّق طعم المَرار والعَلْقم وطَعْم الشَّهد والسُّكَّر، وخالط ألوان الحياة في السِّلم والحرب، وعَجَن أفكاره بعجين الحياة وطينها، وعركَها بعريك آلام المتألِّمين ومَسَرَّات السُّعداء، وطحنها بطحين الأفراح والأحزان، وسقاها بالدَّمع والضَّحِكات.
لذا حين قدَّم الكاتب والشاعر المغربي محمد الصباغ الدَّرْس الأول في تاريخ الأدب العربي لتلاميذ فصل التَّعليم الثَّانوي، نظر في المنهج المُقَرَّر ولم يتحمَّل أن يُعاكِس ذوقه في الأدب ويخالف جوهره وماهِيَّته، فشارك إخوانه الطَّلبة هموم الأدب، ونفذ معهم إلى عوالم أَرْحَب من عوالم الفصول الدِّراسِيَّة، وغاص معهم في بحور الأدب ومحيطاته، ليلتقط دُرَرَه الكامنة في زوايا الحياة وخفاياها، وليخرج ناشئة الأدب الأصيل من عركتهم الحياة وصقلتهم التَّجارب والخِبْرات، فجعلوا للأدب روحا ترسم أجمل الصُّوَر وأصدق المشاهد، وتُبلِّغ أصفى المشاعر الإنسانِيَّة لعشَّاق الأدب ومريديه.
لهذا وجَّه إليهم خطابه السَّامي في مقالته الماتعة “درس في الأدب” فقال: “ما الحياة إلا مجموعة من العواطف، والآمال، والأحلام، والآلام، والمخاوف، والأشواق، والأفراح، والنَّزعات، وما ينتاب الإنسان وغير الإنسان، من جماد وحيوان ونبات، وما يعتريه ويطرأ عليه في هذا الوجود. عواطف تلك الأغصان الرَّطيبة التي تمُدُّ أعناقها إلى ضِرْع الصباح لتُدِرَّ منه حليبًا فتكتسي بالنَّدى. وأحلام تلك الموجة التي تغفو على أختها في الشّاطئ حالمَةً بالتَّسلُّق إلى هامات الجبال، ثم التَّغَلغُل في شرايين الأرض العميقة. وأشواق تلك الصَّبِية التي فقدت لُهاثَها في البحث عن أمِّه، ونزعات التَّربية المتخومة بالأنفاس المخنوقة، والأصلاب المرضوضة، والأعضاء المكدودة من قبل آدم إلى يومنا هذا”.
وغايته من وراء هذه الجولة القصيرة في دروب الحياة، أن يضرب مثلا لتلاميذه ويقدِّم إليهم درسا عملِيًّا لا تنظيريًّا، ليتعلَّموا الأدب ذوقًا وحِسًّا وروحا ومحور حياة، وهذا ما نلمسه من خطابه العميق للارتقاء بالأدب حيث قال: “إنَّ في كلِّ صفحة من صفحات دفاتركم لأسرارًا بيضاء إذا أنتم تَتبَّعتم أدوارها وأَطوارها وصيرورتها منذ أن كانت جذوعًا، وقبل أن تكون بذورًا، وبعدما ستصير عليه، إني لأتخَشَّع كلَّما تغلغل خيالي في أسرار الحياة، وأريدكم أن تتغلغلوا أنتم بخيالكم في هذه الأسرار لتشعروا بها وتُحِسُّوها وتعيشوها، ولتشحذ خيالكم وتُرَهِّف أذواقكم وتملأكم بروح الحياة، ومتى نفذتم إلى هذه الأسرار، وانْبَلجَت أمامكم دروب الحياة برُوّادها الذين صنعوا تاريخها الصّحيح، لا المكذوب في أسفار تواريخ الآداب”.