دعوى المساواة في الإرث في ميزان العقل والنقل والواقع
هوية بريس – حسن فاضلي أبو الفضل
من خلال تتبع أقوال بعض دعاة المساواة في الإرث لم أجد عندهم تعريفا ولا مفهوما ولا شرحا محددا للمساواة، فهل يقصدون به المساواة مطلقا بين الورثة سواء كانوا ذكورا أم إناثا ؛ بحيث يصبح نصيب الإبن كنصيب البنت كنصيب الأخت كنصيب الزوجة كنصيب بنت الابن؟ أم أنهم يقصدون به المساواة بين الذكر المباشر والأنثى المباشرة؛ بحيث يرث الإبن بالفرض منفردا النصف أو الثلثين في حال التعدد؟ أم العكس بحيث ترث البنت بالتعصيب فقط؛ إذا انفردت ترث كل التركة وإذا تعددت مع ذكر أو أكثر يقتسمان بالتساوي؟ أم أن جميع الذكور وجميع الإناث يرثون بالتعصيب فقط؟
فلو أن أحدا حدد المقصود بالمساواة وأنه المساواة والتماثل بين الإبن المباشر والبنت المباشرة؛ بحيث يرثان بالتعصيب معا؛ إذا انفردت البنت تأخذ التركة كلها، وإذا تعددت مع أنثى أخرى أو ذكر آخر يقتسمان التركة.
ولكن ماذا لو اجتمعت البنت مع بنت الإبن في مسألة واحدة؟ فهل سترث معها بالتساوي، أم أن البنت المباشرة ستحجب بنت الإبن!. في مثل هذه الحالات لا يتم فك هذه الإشكالات إلا بإسقاط نظام الإرث بأكمله. والذي لا يعلمه هؤلاء أن نظام الإرث من أدق وأعقد ما يكون بحيث إذا تم تغيير نصيب وارث واحد أو تغيير طريقة إرث وارث واحد فإن نظام الإرث يتهاوى عن آخره، فنكون –إذن- ليس أمام المساواة بين الذكر والأنثى وحسب، ولكن أمام حذف ثمان آيات من القرآن وما يفوق عشرين حديثا صحيحا.
إن الذي يرفع شعار دعوى المساواة في الإرث أقل ما يُقال فيه أنه إنسان يعاني حالة من البله ولا يدري ما يقول، شأنه شأن ذاك الذي يضع رجله اليسرى على يمناه وينفخ دخان سيجارته في السماء، ثم يقول: إن حل محاربة الفقر عندنا بسيط؛ طبع الكثير من الأوراق النقدية وتوزيعها على الفقراء. هكذا !
فهذا قد اختزل النظام الاقتصادي بأكمله في الأوراق النقدية، وذاك قد اختزل نظام الإرث بأكمله في المساواة بين الذكر والأنثى! بينما الأمر في حقيقته أعقد وأعمق مما يفهمه ويدركه هذا الصنف من الناس.
قد يقرأ أحدهم قليلا في الموضوع ثم يقول: نحن لا نقصد حذف آيات من القرآن ولا تحريف التنزيل، وإنما لأن الظروف تغيرت والمجتمعات تطورت وأصبحت المرأة موظفة وعاملة؛ فهي تشارك الرجل في النفقة، فما المانع أن نجعل الإرث بين الذكر والأنثى بالتساوي، وها هو ذا عمر رضي الله عنه أوقف حد القطع لما رأى انتشار السرقة بسبب المجاعة، فلماذا لا نجتهد كما اجتهد!
ومثل هذه الاعتراضات تمثل شكلا أخر من أشكال البساطة والتسطيح الفكري، وصورة من صور تعطيل الفهم وتسريح اللسان لقول أي قول غير تأمل وتقليب النظر فيه. ويجاب عن ذلك بأمور:
أولا: عمر رضي الله عنه لم يوقف الحد ولم يغير حكم الله تعالى وإنما نظر في موانع تطبيق الحد؛ ذلك أن الحدود لا تطبق على المكلف إلا إذا توفرت شروطها كاملة وانتفت موانعها كاملة. فهاهنا قد توفرت شروط الحد ولكن وُجدت معها بعض موانعه، ثم إن الحدود غير أنصبة الإرث؛ الأولى عقوبة دنيوية تُراعى فيها الشروط والموانع ولا دخل لنوع الحد في ذلك، والثانية استحقاق تُراعى فيها شروط الاستحقاق وموانعه ولا دخل للأنصبة في ذلك.
ثانيا: الأحكام المتعلقة بتغير الظروف وتطور المجتمعات هي تلك الأحكام المسكوت عنها في الشرع، وهي المتعلقة بالمستجدات والنوازل المعاصرة، وقد أرجع الشرع استنباط أحكامها للمجتهدين من العلماء وليس لأهل الثرثرة في أمور الشريعة، وأما تلك المنصوص عنها فيقع الاجتهاد فيها في بحث علل أحكامها ومدى مناسبتها لحال المكلف.
ثالثا: أما وإن المرأة أصبحت عاملة ومنفقة على بيت الزوجية، فهذا قد حصل من قديم الزمان، فالمرأة البدوية كانت تشتغل فتحطب الحطب وترعى الماشية وتسقي الحقول، فأين كان هؤلاء؟ أم أنهم يقصدون بالمرأة المرأة المدنية فقط لا البدوية، فحينها يحتاج الأمر أولا إلى المساواة بينهما.
رابعا: المساواة التامة بين الذكر والأنثى خارج أحكام الشرع تقتضي إسقاط المهر عن الرجل وإسقاط النفقة الواجبة على بيت الزوجية من مأكل ومشرب ومسكن وفراش، فهل يقول به هؤلاء؟!
ثم إن من النساء من تنفق على زوجها -لعلة مرضية أو لغير علة- وعلى أبنائها، ومنهم من بلغ العشرين والثلاثين أو يزيد ولازال يعيش على نفقة والدته، فهل إذا مات هذا الزوج وترك تركة، تأخذ الزوجة نصيبا أكبر من أبنائها بسبب الإنفاق على بيت الزوجية؟ أم تتساوى معهم؟ أم ماذا؟
إن الأنثى في حالات كثيرة ترث أنصبة تفوق أنصبة الذكر، ومثال ذلك ما يلي:
توفي رجل وترك ثمانية (8) أبناء أو أكثر وزوجة – سواء كانت أما للأبناء أو زوجة لأبيهم، وتركة قدرها (8000000 سنتيم)؛ فسيكون نصيب الزوجة هو الثمن ويقابله (1 مليون سنتيم)، فيما نصيب كل إبن هو (0.87 مليون سنتيم؛ أي أقل من ميراث الزوجة). فهل تُطالَب الزوجة بالمساواة في هذه الحالات أم لا؟ وهناك حالات أخرى يتساوى فيها نصيب الأنثى مع نصيب الذكر.
وخلاصة هذا المثال أن الذكر لا يرث دائما ضعف ما ترثه الأنثى، بل تارة يرث أكثر منها، وتارة يتساوى معها، وتارة ترث هي أكثر منه، فاستحقاق الأنصبة لا تعلق له بالذكورة والأنوثة وإنما له تعلق بقوة القرابة مع الميّت وبحقوق الغير عليه.
إن الشرع الحكيم لما أعطى للذكر في بعض الحالات أنصبة تفوق أنصبة الأنثى أو حقوقا قد تفوق حقوق الأنثى، فلأنه أمره بواجبات تفوق واجبات الأنثى، ففي حالة الزوجة المنفقة -مدار الكلام- فإننا لم نجد آية في الكتاب ولا حديثا في السنة ولا قولا لعالم ينص على وجوب النفقة على الزوجة، بل حتى في حالة عجز الزوج عن الإنفاق نجد أن الشريعة خيرت الزوجة بين البقاء من غير نفقة وبين طلب الطلاق، ولم تلزمها بالنفقة ولو كانت موسرة وغنية، فإن أنفقت الزوجة على زوجها وأولادها برضاها فإن ذلك يعتبر تبرعا وهبة، وإن أخذ منها زوجها شيئا من غير رضاها يعد غصبا ولو كان معسرا فقيرا. فكيف يتم إذن إسقاط أنصبة محددة في الكتاب وإلزام الزوجة بالنفقة؟!
قال تعالى: {…وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة : 233]
وقال سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق : 7]
ومن السنة من حديث جابر -رضي الله عنه- في صفة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم: {اتقوا الله في النساء؛ فإنهنَّ عَوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحلَلتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف}[1].
وفي سنن أبي داود من حديث معاوية بن حَيْدة -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: {أن تُطعمها إذا طعِمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تَهجر إلا في البيت}[2].
وفي مدونة الأسرة الحالية[3] (تجب نفقة الزوجة على زوجها بمجرد البناء، وكذا إذا دعته للبناء بعد أن يكون قد عقد عليها) (الماد194).
وفي المادة198 (تستمر نفقة الأب على أولاده إلى حين بلوغهم سن الرشد، أو إتمام الخامسة والعشرين بالنسبة لمن يتابع الدراسة.
وفي كل الأحوال لا تسقط نفقة البنت إلا بتوفرها على الكسب أو بوجوب نفقتها على زوجها).
يلاحظ في الفقرة الثانية من هذه المادة أن البنت لا تخل جميع مراحل حياتها من وجوب النفقة عليها على غيرها؛ فقبل الزواج تجب النفقة على أبيها وبعده تجب على زوجها، فيما يتوقف حق الإنفاق على الإبن بمجرد بلوغه سن الرشد.
إن أنصبة الورثة قد حسمها القرآن والسنة بما لا يدع مجالا لتحريفها وتأويلها، والدعوة إلى تغير هاته الأنصبة يحتاج إلى نص من الكتاب ينسخها، ومعلوم أن باب النسخ قد سُدّ بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وكل ما قيل في الموضوع هو من باب الثرثرة ونطح الحائط !
قال أحدهم: نحن لا نريد تغيير أحكام الشرع المتعلقة بالإرث وإنما نريد فتح نقاش مجتمعي! وكأن الأمر يتعلق بغلاء الأسعار أو ضعف التحصيل الدراسي عند الشباب أو اختلالات تدبير الشأن المحلي، في مثل هذه الحالات المدنية وأشباهها يمكن أن ندعو إلى نقاش مجتمعي لمدارسة الموضوع وتقديم حلول للأزمة. أما وإن الأمر يتعلق بشرع الله ونصوصه الثابتة في الكتاب والسنة، فإن المؤهل لذلك ليس عموم أهل الثرثرة وإنما هم أهل الاجتهاد من العلماء، فتفسير نصوص الشريعة فضلا عن الاجتهاد فيها، يحتاج إلى علم ومعرفة وخبرة، وإنما يحق للشخص أن يمارس ذلك، وأن يتمادى فيه قليلا أو كثيرا بقدر ما له من العلم والمعرفة والخبرة[4]، كما يشترط العلم والمعرفة والخبرة في الطب والهندسة وغيرهما، فاستنباط حكم شرعي واجتهاد في مسألة شرعية لا يقل خطورة عن إجراء عملية جراحية ولا يقل أهمية عن تصميم عمارة.
ونختم بهذا الحديث الذي أخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام عن نبوءته بتمدد الإسلام وانتشار شريعته، وهو حديث بقدر ما يشفي صدور قوم مؤمنين يشوي صدور قوم أخرين، فعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ}[5].
والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – أخرجه مسلم و الترمذي وابن ماجه والنسائي وغيرهم
[2] – سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب في حق المرأة على زوجها، ح(2142)، وغيره
[3] – مدونة الأسرة 2004 هي الآن قيد التغيير
[4] – الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة، أحمد الريسوني، ص12
[5] – مسند الإمام أحمد، مسند الشاميين، ح(16509)، والطبراني والبيهقي وغيرهم.