جاء في كلام بعض الأفاضل تقرير هذا المعنى الذي أصوغه بلفظي هكذا:
“الشعب المغربي شعب متدين، فلا داعي للتجريم القانوني للإفطار العلني في رمضان، بل نكِل الناس إلى تدينهم وضمائرهم، إذ وازع الإيمان خير وأقوى من وازع السلطان”.
وتعليقي من أوجه:
الوجه الأول:
قول القائل: “الشعب المغربي شعب متدين”، فيه قسط من الصحة، ولكنها ليست حقيقة ثابتة لا سبيل إلى تغييرها.
وذلك أن هذا الشعب المتدين بفطرته، معرض لمؤثرات خارجية كثيرة، منها: القصف الإعلامي والتعليم الفاسد والتضييق على الدعوة وتيسير الشهوات وتعسير الاستقامة على شرع الله، وغير ذلك.
والحصيلة التي لا بد منها: أن درجة التدين الفردي والمجتمعي لا بد أن تتآكل مع مرور الوقت.
ومما يصدق ذلك: مقارنة حال الشعب المغربي الآن مع الزمن الماضي. فهل كنت تسمع في المغرب في ماض قريب: تفشي الدعارة والسياحة الجنسية وتناول المخدرات والتجارة فيها والمجاهرة بالردة والإلحاد وبيع الخمور في الأسواق العلنية ونحو ذلك؟
وانظر إلى حال الدول الإسلامية التي حُكمت بقبضة علمانية حديدية، هل بقي تدين شعبها كما كان من قبل أم تآكل وتفتت؟
وقد اغتر بما في هذه المقولة من الإطلاق وعدم التحرير، كثير من الإسلاميين المشاركين في اللعبة السياسية في بعض الدول، فظنوا أنهم بمجرد رفع الشعار الإسلامي ستصوت لهم جماهير الشعب دون تردد، لكن تبين -بالتجربة- أن الأمر أعمق، وأن لدى فئات كثيرة من الشعوب المدجّنة المسمّمة فكريا، تخوفات وإشكالات، ليس من الإسلاميين فقط، ولكن من الشريعة الإسلامية نفسها!
الوجه الثاني:
قول القائل: (هيبة الدين خير من هيبة الدولة، ووازع الضمير خير من وازع السلطة) كلام نظري جميل، لكن فيه أمور:
* أولها: أن هذا يفترض شعبا طاهرا مبرّءا، وازعُ الإيمان فيه قويّ إلى الدرجة التي لا يقع أفراده معها في المعصية. وهذه حالة طوباوية غير موجودة في الواقع، ودليل ذلك:
* الثاني: وهو أن جيل الصحابة هو أطهر الأجيال وأنقاها وأبعدها عن مخالفة الشريعة الإلهية. ومع ذلك كان فيهم بعض العصاة، واحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تطبيق بعض العقوبات كما في رجم ماعز والغامدية رضي الله عنهما.
فليت شعري، لِمَ لَمْ يكل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة -وهم أطهر الخلق بعد الأنبياء- إلى ضمائرهم وصدق تدينهم، بل أخبر بالحدود والعقوبات وطبقها على مستحقها فعليا؟
* والثالث: إذا كنا سنكل الناس إلى تدينهم في صيام رمضان، فلِم لا نطرد ذلك في المعاصي كلها -ومنها القتل والسرقة مثلا- فلا نجرم شيئا من ذلك؟
ترى .. صعُب عليك الجواب؟
أنا أجيبك فأقول: لأن هذه المعاصي فيها أذى للآخرين، بخلاف صيام رمضان. والقاعدة العلمانية المعروفة أنه لا تجريم إلا عند إذاية الآخرين، كما يقول جيفرسون (لا تمتد السلطات المشروعة للحكومة إلا إلى تلك الأعمال التي تؤذي الآخرين فحسب، لكن لا يؤذيني في شيء أن يقول جاري إن هناك عشرين إلهاً، أو يقول لا يوجد إله قط؛ فلا هذه ولا تلك تسرق جيبي أو تكسر ساقي)؛ (من مقال “المضامين العلمانية للفكر التنويري” لأحمد سالم).
أما في الشرع الإسلامي: فإن المحرمات المتعلقة بالفكر والتي لا تتضمن أذى ماديا مباشرا للآخرين، مجرمة وعليها عقوبات شديدة.
الوجه الثالث:
حين يُلغى التجريم عن المخالفات الدينية الخالصة، فإن القوانين الجنائية تبقى سارية على المخالفات الدنيوية غير المتعلقة بالدين.
وبعبارة أخرى:
يعاقب المخالف لأعراف الناس وآرائهم واجتهاداتهم الوضعية..
ويعفى من العقاب المخالِف للشريعة الربانية، المنزلة من لدن حكيم خبير!
وفي هذا تهوين واضح من منزلة الشريعة.
وهذا التمييز مبدأ علماني، تقرر في أوروبا في مرحلة القطيعة مع الكنيسة خلال قرن الأنوار وما بعده. وفيه: نزعت من الكنيسة صلاحية تقرير ما يعاقب عليه من الأفعال، لأن ذلك مناف لمبدأ فصل الدين عن الدولة.
ونحن اليوم ماضون في تطبيق هذا المنهج التنويري العلماني خطوة خطوة ..
الوجه الرابع:
إذا وكلنا الناس لتدينهم في مسألتنا، فينبغي أن نطرد ذلك في جميع المحرمات التي ما نزال ندعو إلى منعها (ومقتضى المنع إنزال العقوبة)، كالدعارة والسياحة الجنسية وبيع الخمر وتنظيم مهرجانات الفجور ونحو ذلك.
ولذلك سنجد من يقول: الذي يشتري قنينة خمر، ويشرب منها كؤوسا معدودة لا تسكره، ولا يتسبب في أذى الناس: بأي حق نمنعه من شراء الخمر؟ أليست هذه حريته الشخصية، ولا يحق لنا أن نمنعه بقوة الدولة والسلطان من شيء اختاره بمحض حريته!
فينبغي إذن أن نبيح بيع الخمر في كل مكان، ونكل الناس -في عدم اقتنائها- إلى ضمائرهم الدينية!
وقل مثل ذلك عن العلاقات الجنسية بجميع أشكالها، ما دامت برضا الطرفين!
الوجه الخامس:
ثبت في الكتاب والسنة وكلام الأئمة الفقهاء عبر تاريخ الأمة، من البراهين الدالة على وجوب إلزام الحاكم الناسَ بواجبات دينية، وتقرير العقوبات على تركها، ما يرقى بمجموعه إلى مرتبة القطع واليقين -لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها كما أشرت إليه في مقال سابق-.
ونظرا لضيق المقام، وكثرة هذه الأدلة، فإنني أدعو القارئ إلى دراسة الفقه من منابعه الأصيلة، وأن يهجر -ولو إلى حين- هذه الإطلاقات العصرية المتأثرة بالثقافة المهيمنة. وسيرى ما يصدق كلامي واضحا لا لبس فيه.
الوجه السادس:
قاعدة (أميتوا الباطل بعدم ذكره) ليست على إطلاقها! فقد ذكر الله في القرآن بعض المقولات القبيحة لأهل الباطل مثل قول اليهود: (يد الله مغلولة) و(إن الله فقير ونحن أغنياء)، وقول النصارى: (إن الله هو المسيح ابن مريم) ونحو ذلك، ثم ردّها بما يبطلها.
والضابط: أن المقولة إذا اشتهرت وفشت بين الناس، واغتر بها الكثيرون، وجب التصدي لها وردّها وعدم تجاهلها. وفي هذا يقول مسلم في مقدمة صحيحه: (.. إذ الإعراض عن القول المطّرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيها للجهال عليه؛ غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور وإسراعهم إلى اعتقاد خطإ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد، أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء الله).
وعلى هذا، فإننا نقول: إن الرد على هؤلاء السفهاء المجاهرين بالفطر واجب شرعي، وذلك أن تصرفاتهم الخرقاء اشتهرت وانتشرت واغتر بها بعض المذبذبين؛ فلا يمكن إماتتها بتجاهلها وغض الطرف عنها.