د. البشير عصام المراكشي يكتب: العربية أفضل اللغات..
هوية بريس – د. البشير عصام المراكشي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فهذا مقال مختصر في الموضوع كتبته على عجل، دون رجوع إلى الكتب.
وأكسره على محاور، أتناول فيها -بإذن الله تعالى- جميع المسائل التي أثيرت في مقال أخي الصحافي القدير مصطفى الحسناوي، بعد أن طلب رأيي في الموضوع.
في مبدأ التفضيل بين اللغات:
هل توجد لغة هي أفضل من اللغات الأخرى؟
يجيب علم اللسانيات الحديثة: لا، بل اللغات جميعُها متساوية.
ولكن، علينا أن نستحضر أن علم اللسانيات -كغيره من العلوم الإنسانية التي نشأت بعد عصر الأنوار- هو علم متحرر من جميع الاعتبارات الدينية. والذين أدخلوا قواعد اللسانيات من المستشرقين إلى الدرس اللغوي العصري في بلادنا، وطبقوها على العربية، جزموا بأنها تساوي غيرها من اللغات.
لكننا لسنا ملزمين بأن نتنصل من ديننا عند البحث العلمي، سواء في اللسانيات أو في علم النفس أو الاجتماع أو التاريخ أو غير ذلك.
ولذلك فالاعتبار الديني حاضر عندنا بقوة في هذا المقام.
وبيان ذلك أن تفضيل العربية على غيرها من اللغات يكون بأحد سببين: ذاتي أو موضوعي.
فالذاتي: مثل كونها لغة الباحث الأصلية التي تعلمها قبل غيرها، وأتقنها أكثر من غيرها. ولتُسَمِّ هذا السبب “سببا عاطفيا” – إن شئت ..
والموضوعيُّ له -في نظري- شقان:
الأول: كون العربية لغة القرآن والسنة، ولغة أفضل الخلق، ولغة الصحابة وأكابر العلماء والصالحين عبر قرون عديدة.
والثاني: أن لها خصائص لغوية تميزها، وتجعلها أفضل من غيرها.
وإذا كنت أقول إن العامل الذاتي لا اعتبار له في هذا البحث، فإنني أرَجح العاملَ الموضوعي الثاني، بما سيأتي في موضعه – إن شاء الله -؛ وأجزم بصحة العامل الموضوعي الأول، إذ لا يمكن أن تكون “لغة خير الكلام وخير الناس”، ليست أفضل من غيرها! وهذا لا يقتضي بالضرورة أن تكون لها خصائص ذاتية، تَفضُل ما لغيرها – فإن هذا شيء سنناقشه فيما بعد – ولكن مجرد كونها “لغة خير الكلام وخير الناس” معيارُ تفضيل، بقطع النظر عن الخصائص الذاتية.
وهذا تفريق دقيق، لكنه مهم جدا..
ومن أسباب الغلط هنا: الخلطُ بين العامل الذاتي والعامل الموضوعي الأول، وجمعُهما في سياق ذاتي عاطفي واحد. والحق أن الثانيَ ليس عاملا ذاتيا إلا عند من يرى “النسبية” في الأديان والأفكار..
أما نحن معاشر المسلمين، فأفضليةُ القرآن والسنة على غيرها من الكلام، وأفضليةُ محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الناس، أمورٌ موضوعية ثابتة في نفس الأمر، لا بالنسبة لذات معينة. فما ينبني عليها من أفضلية وِعائها اللغوي: موضوعيٌّ أيضا.
في شرط الاطلاع على اللغات كلها قبل التفضيل
هل التفضيل بين اللغات يقتضي الاطلاعَ على جميعها؟
الجواب: لا، ولكن يكفي الاطلاع على اللغات التي يُمكن أن يَدَّعيَ أصحابُها أفضليتَها، كالفارسية والرومية والهندية قديما، وكالانجليزية والفرنسية والألمانية حديثا. أما اللغاتُ المغمورة، في أقاصي المعمورة، فلا أحد يَطرح فكرة تفضيلها على العربية، فلا حاجة إلى إبطال دليل أو شبهة لا يتبناها أحد من الناس، إلا على جهة الافتراض العقلي، الذي لا اعتداد به في هذا المقام.
وإذا ثبت هذا – وهو ثابت إن شاء الله – فالذين قرروا أفضلية العربية من علمائنا المتقدمين قد اطلعوا على اللغات المشهورة في زمانهم خاصة الفارسية؛ والذين قرروا ذلك من لغويينا وأدبائنا المعاصرين قد اطلعوا على اللغات الأوروبية الحديثة خاصة الانجليزية.
وهذا كاف في مثل هذه الأبحاث؛ واشتراطُ الاستقراءِ “الرياضي” التام، مهجورٌ في العلوم الإنسانية.
في اختيار الله العربيةَ لكتابه العزيز
نحن نقول: ما اختار الله تعالى العربية لتكون لغة كتابه المعجز، إلا لأنها أفضل اللغات في ذاتها.
وبيان هذا التقرير: أننا إن قلنا بأن اللغات متساويةٌ في الفضل الذاتي، فاختيار البارئ العربيةَ ترجيحٌ دون مرجح، تتنزه الحكمةُ الإلهية عنه.
وإن قلنا بأنها متفاضلة، وأن لغةً غيرَ العربية هي الأفضل، فاختياره العربيةَ حينئذ، اختيارٌ للمفضول، وهو مخالف للحكمة أيضا.
فثبت المقصود، وهو أن اللغات متفاضلة، وأن العربيةَ أفضلُها.
وبه يُعلم سؤال السائل: هل يعجز الإله أن ينزل قرآنا معجزا بالصينية مثلا؟
والجواب: لا يعجزه شيء، لكنه سبحانه ليس يفعل كل ما يقدر عليه، بل يفعل بمشيئته سبحانه، وله في أفعاله الحكمة البالغة، التي نفهم منها ما تُمكّنُنا عقولُنا أن نفهمَه.
في العلاقة بين اللغة والحضارة
هل اللغة تزدهر بفعل التقدم الحضاري للناطقين بها؟
نعم دون شك.
لكن..
ليس هذا السبب الوحيد، وإلا لكان الارتباطُ مطّردا بين التقدم الحضاري وازدهار اللغة، وليس الأمر كذلك، بل ما أكثر ما يوجد الأول ويتخلف الثاني.
فإن قُصِد بالتقدم الحضاري الرفاه وطيب العيش، فما بال اللغة السويدية مثلا مغمورة مطمورة؟
وإن قصد به الإبداع الثقافي والأدبي والفكري، فأين اليونانية والهندية والفارسية اليوم، وهي لغات تكلمت بها أرقى الحضارات القديمة؟
وإن قصد به الهيمنة العسكرية والانتشار بالغزو، فأين البرتغالية ولغات التتار والمغول وقبائل الهون وغيرها؟
وإذن ليس صحيحا أن اللغات لها نفس الخصائص ونفس حظوظ الانتشار، فمتى وجد التطور الحضاري انتشرت؛ وإلا فلِمَ لَمْ تنتشرْ هذه اللغات؟
(من المعلوم: أن الغزاة – في أحيان كثيرة – يتبنون لغات البلاد التي يحتلونها. فما السبب يا ترى؟).
في الخصائص الموهومة
نحن نعتقد أن للعربية خصائص ذاتية تجعلها أفضل اللغات تحقيقا لا ادعاء.
ولكن اختلاط الحابل بالنابل، وكثرة كلام الناس في ما لا يحسنون، جعَلَ الكثيرين يتسوّرون هذا المقامَ الاختصاصي السامي، ويأتون بخصائص موهومة، يكون أثرها على المتلقين عكسيا، فيسيئون من حيث يحسبون أنهم محسنون صنعا!
من ذلك ما رأيته في مقطع مصور لأحد الفضلاء يستهزئ فيه باللفظ المقابل في الفرنسية لـ”ثمانين وتسعين”، وهذا منقوض في مجال الأعداد نفسها بقول العرب “أحد عشر” حيث يقول الفرنسيون “onze”! والتحليل نفسه في المقامين .. فكيف لو خرجنا عن الأعداد إلى غيرها؟!
فما أشبه هذا بالحديث عن لفظ “news” في مقال الأستاذ الحسناوي: كلاهما صالح في مجال الطرفة لا في ميدان البحث الجاد.
ولن يعجز المخالف في مجال الخصائص الموهومة هذا، أن يأتي بأمور تتفوق فيها لغات أخرى على العربية. ومَن مارس مجال الترجمة إلى العربية، في مجال الإنسانيات خصوصا، علِم حجم المعاناة في إيجاد مقابل عربي لكثير من الألفاظ المستحدثة عند الغربيين، خاصة حين يستعملون السوابق ذات الأصل اللاتيني (préfixes) مثل:
Extra / post / anti / pro / intra
أو بعض اللواحق (suffixes) مثل: -isme، التي يحار المترجمون فيها، إلى درجة اختراع أوزان لا وجود لها في العربية (كالعلموية لـscientisme والفردانية لـindividualisme)..
وليس هذا نقصا في العربية، وإنما هو خلل شديد في آليات التعريب، المعمول بها عند المجامع اللغوية في العصر الحديث، والتي تجعل العربية تراوح مكانها، بدلا من استيعاب الكلمات الأعجمية، وإخضاعها لأوزان العربية، واستعمال الأدوات الاشتقاقية الهائلة التي تتيحها العربية، خاصة آلية النحت.
ولتفصيل هذا المبحث مقام آخر، ولكن المقصود أن المقارنة بين اللغات لا تكون بطريقة: “هذه الكلمة الصغيرة في لغتي، يعبر عنها بكلام طويل في اللغات الأخرى؛ إذن لغتي أفضل!”.
في الخصائص الحقيقية
وقبل بيان بعض هذه الخصائص، فقد وقعت الإشارة في مقال الأستاذ، إلى مبحث شريف القدر، بعيد الغور، دقيق المنزع، هو مبحث القيمة البيانية للحروف العربية..
وقد دلت دراسة المادة النحوية الصوتية أن لكل حرف صوته من جهة المخرج والصفات، وأن هنالك نوع مناسبة بين الحروف العربية ومعانيها، فكأن الحرف ليس لبنة صوتية “محايدة” في الكلمة، يمكن أن يقوم غيرها مقامها، وإنما هو صوت معبر بذاته عن غرض.
وقد ذكروا لذلك أمثلة كثيرة (كالخضم والقضم)، وتفننوا في استنباط اللطائف الفريدة (كالعلاقة بين أصوات الحيوانات والمظاهر الطبيعية، وما وضعت لها العرب من الأسماء).
والحق أنني أنبِّل هذا المبحث العظيم، عن أن أتناوله في هذه العجالة!
أما الخصائص فأذكر هنا أبرزها، دون تفصيل -فقد طال هذا المقال، حتى قارب حد الإملال-:
• ظاهرة الإعراب، الذي كان موجودا في اللغات السامية، وفُقد من أكثرها. وهو وسيلة ظريفة لتحديد الوظيفة النحوية.
• الاشتقاق -بأنواعه: الأصغر والكبير والأكبر، مع النحت-: وهو آلية تتيح ثراء معجميا ضخما، لو أُحسن استعماله !
• الثراء اللفظي، ومنه الترادف والتضاد، وفي ضمن هذين فقط -فضلا عن غيرهما- بحر غطمطم من اللطائف والفرائد، والفروق والنظائر.
• الجمال البلاغي، في التشبيه والاستعارة والكناية والإيجاز والإطناب والحصر وغيرها، مما تتابع الأدباء على المتح من نميره العذب، فما زاد إلا تدفقا. ومقابلُ هذا في اللغات الأوربية ضامر هزيل!
• التنوع في أوزان الشعر وقوافيه. والناظر في أوزان الشعر في اللغات الأوروبية، يجزم بالتفاوت الضخم.
وتفصيل هذه الجُمل يطول حتى يحصل المَلام، ويتشعب في شجون الحديث وأودية الكلام.
والله الموفق.