د. البشير عصام المراكشي يكتب: عن “البغرير”، وما يثير..
هوية بريس – د. البشير عصام المراكشي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
🌟 تمهيد لغوي:
تعريب الكلمات الأعجمية يكون من طريقين:
✔ أولهما: إبدال الحروف الأعجمية بما يقاربها من حروف العربية، كقلب الكاف الأعجمية كافا عربية أو قافا أو جيما أو غينا. وكل ذلك سائغ لا إشكال فيه.
✔ والثاني: تحويل الكلمات الأعجمية من أبنيتها إلى الأبنية المعروفة عند العرب. فإن للعجم في كلامهم أبنية وأوزانا، كما أن للعرب أبنية وأوزانا، هي قوام الألفاظ العربية.
يقول سيبويه: (كل ما أرادوا أن يعربوه، ألحقوه ببناء كلامهم، كما يُلْحقون الحروف بالحروف العربية)، ويقول الجوهري في الصحاح: (تعريب الاسم الأعجمي: أن تتفوه به العرب على منهاجها).
ومما أخذه العرب من كلام العجم حتى دخل في لغتهم: البستان والمهرجان والتخت والكوسج والإستبرق والقسطاس ونحوها.
وقد اشتمل القرآن على بعض هذه الكلمات المعرّبة، ولم يخرجه ذلك عن كونه عربيا، بل في أعلى مراتب الفصاحة؛ وذلك لأن اللفظ بعد تعريبه وإخضاعه لأبنية العربية، يصير لفظا عربيا فصيحا.
وفي غير القرآن، وُجدت في الكلام العربي المحتجِّ به ألفاظٌ معرّبة، كالسجنجل (وهو لفظ رومي يعني المرآة) في قول امرئ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة = ترائبها مصقولة كالسجنجل
وكالجُمان (وهو لفظ فارسي يعني الدرة المصوغة من الفضة) في قول لبيد بن ربيعة:
وتضيء في وجه الظلام منيرة = كجمانة البحري سل نظامها
بل إنهم قد يشتقون من هذه الكلمات العربية – مع أن الأصل أن الأعجمي لا يشتق منه – فقالوا مثلا: “بَهْرَجْتُه فتبهرج”، وأصل ذلك من “بهرج” وهو تعريب “نبهره” وهي لفظة فارسية أو هندية. وكما قيل: “فلان يسَفْسِطُ في المعقولات” وهو فعل مشتق من السفسطة، وأصلها من اليونانية.
وفي الزمن الحديث، عُرّبت كلمات أعجمية كثيرة، في مجالات العلوم التجريبية والإنسانية، كالتقنية والتلفاز والإلكتروني ونحو ذلك، كما وضعت كلمات عربية في مقابل بعض الكلمات الأعجمية، كالحاسب واللاقط والهاتف ونحوها.
والمَهيعان مسلوكان، ولهما أصل في فعل العرب قديما، فإنهم لم يلتزموا اختراع كلمات عربية في مقابل الأسماء الأعجمية الواردة، بل قالوا مثلا -وسياق المنشور في الحلوى والمطعومات -: الفالوذج (أو الفالوذ أو الفالوذق) واللوزينج والفانيذ – وهي أنواع من الحلوى.
🌟 عن “البغرير” ونظائره:
إذا عُلم ما سبق، فإننا نقرر أن العامية خليط من العربية المحرفة، ومن اللغات الأجنبية كالفرنسية والإسبانية.
وعلى هذا، فما كان من الكلمات العامية ذا أصل عربي واضح، فلا إشكال في استعماله كما ورد، ومثال ذلك -في مجال المأكولات دائما-: كعب الغزال (أعاننا الله على فتنته، وعلى فتنة كعبه!).
وما كان أصله العربي غير معروف، فيطبق عليه ما يطبق على الكلمات الأعجمية، فيُترك كما هو، أو يعرّب بإخضاعه لأبنية العربية. ومثال ذلك: “البغرير” الذي هو أصل هذا الجدل اللغوي/الاجتماعي/السياسي؛ فيبقى كما ورد، ولا داعي لاختراع لفظ عربي يقابله.
ثم الأولى أن يكسر أوله “بِغرِير”، لورود وزن “فِعليل” في كلام العرب، كحِلتيت وغِطريف وشِمليل، بخلاف “فَعليل” بالفتح، فلا يوجد عندهم؛ ولذلك قالوا إن بَرطيل بالفتح عامي، والصحيح بِرطيل، لفقد وزن “فَعليل” بالفتح في كلام العرب.
🌟 حقيقة المعركة
وقد تبين مما سبق أن الإشكال ليس في بضع كلمات معربة أُخضعت لقواعد العربية، وإنما هو في أمور يجب أن تتوجه جهود المدافعة نحوها:
أولها: إضعاف مكانة مادة العربية بين المواد التعليمية الأخرى، وتقديم مواد تعليم اللغات الأجنبية من فرنسية وإنجليزية عليها.
والثاني: ضعف مناهج تعليم العربية، والانتكاس الفظيع في انتقاء المختارات الأدبية، وضمور الدرس النحوي والصرفي والبلاغي.
والثالث: فتح النقاش الاجتماعي عن تدريس العامية (لا فقط عن التدريس بالعامية – كما هو معمول به الآن !) بدلا من العربية الفصحى، وتولي بعض الجهلة المتصدرين لكبر هذه الدعوات الخبيثة، واستغلالهم كل فرصة لزرع البذرة العامية الفاسدة في التعليم والإعلام والفن والأدب ..
والرابع: تواني المتدينين -الذين هم آخر حصن دفاعي في مواجهة هذه الحملة المسعورة على الفصحى- وتثاقلهم في خوض هذه المعركة المصيرية، بل مساندتهم غير الواعية لأعدائهم، بتساهلهم في الكتابة بالعامية على مواقع التواصل خصوصا، مع استعمال مبررات فاسدة (سبق لي بيانها في مقالات سابقة).
ومن طريف ما يقع: أن بعض المنكرين على استعمال لفظة “البغرير”، يكتبون إنكارهم بالعامية الصريحة، أو بتراكيب عربية ركيكة هي إلى التراكيب العامية أقرب منها إلى الأساليب العربي الفصيحة!
فاعجب لباحث عن حتفه بظِلفه، وجادعٍ مارنَ أنفِه بكفه!
والخامس: الحملات “التجديدية” لتدمير علوم العربية، ما بين داع إلى تغيير قواعد اللغويين في الاشتقاق والسماع والقياس ونحو ذلك، ومنادٍ بتحطيم “نظرية العامل” التي قام عليها علم النحو، ومهاجم لقواعد الإملاء العربي قصد “تيسيرها” فيما يزعم، ومستهزئ ببحور الخليل بن أحمد وتفعيلاته وقواعده في العروض والقوافي..
وهذه الحملاتُ تهدد العربية، وتنذر بتدمير البقية الباقية منها بين أيدي الناس اليوم. ومع ذلك، فالمتصدون لها بعلم وعدل، ثلةٌ قليلة مغمورة – جعل الله البركة في جهودهم.
والله الموفق.