د. البشير عصام: من جنى اليراع.. نظرة من النافذة..
هوية بريس – د البشير عصام المراكشي
الحديث الأول؛ من جنى اليراع.. نظرة من النافذة..
كنت قبل أيام قليلة في حديث لطيف مع أحد الأفاضل، فجرى على لسانه ذلك القول المتداول في أدبيات الإسلاميين:
“الشعوب كلها تريد الإسلام، ولا تريد أن يحكمَها غيرُ الإسلام..”.
فكان من جوابي له حينئذ:
“نعم هذا صحيح يوافقك عليه كل متابع..
ولكن.. أي إسلام هذا الذي تريده الشعوب؟!”
نظرت حولي مستقريا آراء الناس وأفكارهم في الموضوع، فوجدت عجائب من التصور لحقيقة الإسلام، وغرائب من الفهم لطريقة تنزيل تعاليمه في دنيا الناس اليوم ..
فأحدهم هنا يجعل الإسلام مرادفا للأخلاق بمعناها المحصور في قواعد التعامل المجتمعي، فتراه يصدح بأن “الدين المعاملة”، ويستقلّ قيمة الشعائر التعبدية (من صلاة وصيام وحج وغيرها) والأوامر الشرعية (في اللباس والزينة ونحوهما) في مقابل “حسن التعامل بين الناس”!
وآخر هناك يرادف بين الإسلام والتقدم العلمي والتقني والتطور الاقتصادي، ويرى الدينَ الإسلامي محصورا في اللهاث وراء الحضارة المادية الغربية بعُجرها وبجرها!
وثالث هنالك يقصر الإسلام على معاني العدل والمساواة والحرية وحقوق الإنسان ونحو ذلك – وليته يتصور هذه المفاهيم بمعانيها الشرعية، ويخلّصها من حمولتها العلمانية!
وقس على هؤلاء غيرهم من الذين يقررون ما يحلو لهم ويوافق أهواءَهم من المعاني، ثم يحملون عليه تصورهم للإسلام المنشود!
ويؤكد هذا في أذهان عامة الشعب قوم من محترفي الاستعراض الدعوي الإعلامي، ممن “تأسلموا بأخرة” إرضاء للطلب الجماهيري الملحّ، وموافقة للمزاج التديّني السائد؛ فتراهم يقررون في عروضهم (خطبة، موعظة، حوار، “كبسولة” إعلامية، ..) المعنى الموافق لرغبات الجماهير أولا (وهو معنى قد يمتد من أداء “الواجب” الانتخابي إلى التأنق في اللباس مرورا باحترام قوانين السير وأخلاقيات العمل)، ثم يؤصلون له -بأدنى مناسبة وأيسر مشابهة- من القرآن والسنة ثانيا (ولِدليل الوحي سحر خاص على النفوس)، ثم يجعلون ذلك هو الإسلام، والإسلام هو ذلك، ولا شيء غير ذلك!
إن الانتماءَ المجرد للعنوان العام أو الشعار التاريخي لم يعد يعني كبير شيء في زمن السيولة التي تنفي صلابة الأفكار، والنسبية التي تعدم إطلاقية الصواب/الخطأ، وطغيان الفردانية التي تبيح للفرد المؤلَّه أن يقرر بنفسه ما يضعه من المعاني تحت الشعار الذي يرفعه!
لم تنتف الخلافات الإيديولوجية ولم تمّح الصراعات الفكرية، ولكن مراعاة قواعد التواصل والكياسة، واستعمال لغة الخشب وخطاب اللياقة، كل ذلك يمنع من التصريح والمواجهة، ويفضل الاتفاق على العنوان، مع التغيير في صورة الثبات، والتحريف في صيغة السلامة، والتحويل نحو النقيض ولكن “من الداخل”!
كثير من النخب مثلا ترفض الإسلام الحق ولكنها لا تصرح بذلك، وتكتفي بالعمل على تغيير معنى الإسلام في نفوس الناس وأذهانهم..
كثير من العاملين للإسلام من حيث الشعار، يعملون -في حقيقة الأمر وبحسن نية في كثير من الأحيان- لترسيخ الثقافة المهيمنة، التي لا يمكن أن تجتمع مع الإسلام الحق..
كثير من عامة المسلمين يحبون الإسلام ويعدّونه أساس هويتهم ومحورَ كيانهم، ولكنه الإسلام الذي لا يكلفهم كبير شيء، ما دام لا يخالف الثقافة المسيطرة..
إن التيار الفكري قد يُغير إهابه، لضغط خارجي أو لخلل داخلي أو لهما معا..
وحين يفعل ذلك، فإن المنتمين له لا يشعرون بالتغير (بل يتغيرون هم أيضا بتغيره) فإن قوة انتمائهم -التي قد تبلغ درجة التعصب- تمنعهم من النظر الشمولي الذي يرصد درجة الابتعاد عن نقطة الانطلاق..
فهُم مثل راكب القطار الذي لا ينفك عن النظر إلى داخل المقطورة، فهو -لذلك- لن يلحظ أبدا أن القطار يتحرك، وأنه يبتعد عن المحطة التي انطلق منها ..
ولن يستطيع أن يرى ذلك بوضوح إلا إذا أطلّ -بين الفينة والأخرى- من النافذة، ليرى أين وصل به المسير..
فهل من نظرة من النافذة؟