د. البشير عصام يكتب: من جنى اليراع.. الضحية والبطل..
هوية بريس – د. البشير عصام المراكشي
الحديث العاشر #من_جنى_اليراع: الضحية والبطل..
منذ أسابيع قليلة، زُلزل الرأي العام المغربي بحادثة فريدة: تلميذ في التعليم الإعدادي، تربّص بأستاذته خارج المدرسة وضربها بآلة حادة في وجهها، أحدث لها جرحا ظاهرا، كظهور الإشكالات التعليمية في بلادنا لكل ذي عينين!
إلى هنا، كان بإمكاننا أن نقول: الكارثة محصورة، ولا تحتاج إلى كبير نقاش وأخذ ورد: شخص يرتكب جُرما، ومصيره أن يُعرض على القضاء، كما يعرض أصحاب الجرائم كلها..
لكن بدأ الإشكال حقا مع بدء تعليقات الناس، التي تجمعها بعض وسائل الإعلام – بقليل من الحرفية وكثير من البحث عن الإثارة -، وكانت تدور حول معنى: “هذا التلميذ ليس مسؤولا عن أفعاله، فهو ضحية الأسرة الغائبة، وضحية المجتمع الفاسد، وضحية النظام التعليمي المتهالك”.
وهذا الكلام حق في ذاته، لكنه باطل فيما يُقصد به. وما أصدقَ كلمة علي -رضي الله عنه- حين قال في نظير ما نحن فيه: “كلمة حق أريد بها باطل”.
وهذا الباطل ليس محصورا في حادثة واحدة، بل قد صار شماعة كبرى يعلق عليها كل فساد في الأمة والمجتمع. والأمثلة كثيرة جدا، تبدأ عند السفاحين الذين يقتلون العشرات، ولا تنتهي عند آحاد المواطنين الذين يخالفون قوانين السير.
ولو وقف الأمر عند التفسير لهان -وإن كان في أغلبه تفسيرا أحاديا، لا يراعي التركيب في الظواهر الاجتماعية-، ولكنه تفسير يتحول إلى تسويغ..
وتحليل سطحي يؤدي إلى التنصل من المسؤوليات و”تقديس مفهوم الضحية”..
ولذلك فالكل صار ضحية.. ولا أحد يقبل أن يتقمص دور الجلاد..
هل أحتاج مرة أخرى إلى التذكير بأن متابعة الأحداث اليومية المتسارعة، لا يكون نافعا إلا إذا استطاع المتابع أن يفكّ الرموز التي تتحكم فيها، ويفهم الأفكار الكامنة التي تثيرها؟
لنا أن نسأل إذن: ما الأسباب التي أثمرت “تقديس معنى الضحية” في مجتمعاتنا؟
ومرة أخرى، لا بد من إطلالة على الحضارة الغربية الحديثة، لأننا لا نكاد نبدع اليوم جديدا في الحسن ولا في السيّء!
ذكرتُ في مقال سابق عنوانه “النصر أو الشهادة” أن التراث النصراني في القرون الوسطى كان يقدس معاني التضحية، خلافا للثقافة ما قبل النصرانية (الرومانية مثلا)، والتي كانت تقدس مفاهيم البطولة. والبطولةُ تحمل معاني القوة والمبادرة والبحث عن النصر والسعي إلى التفوق، فهي أقرب إلى مفهوم “الجلاد” منها إلى مفهوم “الضحية”. ولأجل ذلك فإن تقديس البطل وتقديس الضحية، مفهومان متعارضان، يزيد أحدهما بمقدار النقص الحاصل في الآخر.
وحول هذه الثنائية، ألّف جان ماري أبوستوليدس Jean-Marie Apostolidès عام 2003م كتابه “Héroisme et victimisation”، ليفصّل الحديث عن منظومتين قيميتين متصارعتين منذ الجذور الأولى للحضارة الغربية:
الأولى مستمدة من عصور ما قبل النصرانية، تمجّد البطولة، بما تحمله من عنف وسيطرة وتحقيق للذات؛
والثانية مستلهمة من التنظير النصراني، الذي يقدس الضحية، ويعلي قيمة نكران الذات والتخلي عن السيطرة على الآخرين (لينتبه القارئ إلى أنه تنظير فقط!).
بعد انهيار السيطرة الكنسية على أوروبا، وتطور العلوم الحديثة، ازدهرت قيم البطولة، وصار الإنسان الأوروبي يحلم بالسيطرة على العالم كله، بالمزج بين البطولة العسكرية والاكتشافات العلمية الحديثة. ومضى القرن التاسع عشر كله على هذه الوتيرة، بدءا بالحروب النابليونية داخل أوروبا، ومرورا بالحروب “الكولونيالية” خارجها، إلى أن كانت محطة الحرب العالمية الأولى.
دخلت أوروبا هذه الحرب متخمة بقيم البطولة. لكن المذابح كانت رهيبة ولا نظير لها في ما سبق من الحروب. فبدأت معاني البطولة تتآكل في النفوس، ويزدهر البحث عن السلم ومتعة العيش، خاصة لدى الشعوب المنتصرة في الحرب (خاصة فرنسا). أما الشعوب المنهزمة، فإن ثقل الهزيمة ومرارة الانكسار، جعلاها تجرب البطولة من جديد، لعلها تخرج من وهدتها القاتلة. فكان النظام النازي في ألمانيا، وكانت الحرب العالمية الثانية.
لكن الحرب الثانية كانت أكثر دمارا، وأظهرت للجميع أن البطولة تأتي بالخراب والمآسي الإنسانية القاتلة. وصار الناس عموما يميلون للدعة وخفض العيش، والتمتع بالحياة. لكن كان لا بد من تحطيم “قيم البطولة” رسميا، ليسيطر الاتجاه القيمي الآخر على العقول والنفوس.
وكان هذا التحطيم من فعل جموع الشباب المتظاهرين في ماي 1968، في فرنسا وكثير من الدول الغربية. لقد حمل هؤلاء الشباب على عواتقهم تكسير بقايا الثقافة البطولية، ورفع شعارات: “الفرد الضحية، والطائفة العِرقية الضحية، والطبقة الاجتماعية الضحية، والشعب الضحية”، في مواجهة جميع رموز التحكم والسلطة!
وتضخمت حقوق الأقليات -ومنها حقوق الشواذ والمنحرفين والمجرمين، لأنها تتقمص سربال “الضحية المضطهَدة”- لتُصبح سيفا مصلتا فوق رأس المجتمع، تفرض عليه الانصياع لانحرافها وشذوذها دون نقاش!
وفوق ذلك، صار الشعور السائد هو العجز عن التغيير، والضعف عن المبادرة، والتحول إلى قطيع هادئ مستكين إلى الراعي الرأسمالي، المتحكم فيه بطريق شهوة الاستهلاك “الإدماني”!
ولكن الأسباب ليست من الخارج فقط، بل إن المرض موجود في الداخل أيضا، وذلك منذ زمن بعيد..
يتمثل المرض الداخلي في عقيدة “الجبر”، التي تنفي مسؤولية الفرد عن أفعاله، وتعلقها على القدر. وهي عقيدة تلائم دور “الضحية”، الذي كُتب عليه ما هو فيه، ولا تلائم دور “البطل” الذي يسعى لينازع قدر الله بقدر الله كما يقول عبد القادر الجيلاني.
وعقيدة الجبر –ومعها قرينتها “عقيدة الإرجاء”- انتشرت في الأمة منذ قرون، بسبب انتشار العقيدة الأشعرية والتصوف الانسحابي. ثم تأكد انتشارها بعد الهزائم المتلاحقة، وحالِ الهوان والضياع والتخلف، وذلك لأن الجبر في حالات الضعف مريحٌ للنفوس، يُميط عنها تعذيب الضمير، ويرفع عنها مشقة التكليف وصعوبات العمل.
وما أكثر ما رأينا المجرمين في بلداننا يحتجون بالقدر، ويقولون حين يعاتَبون على جرائمهم: “هذا ما كتب الله علينا!”.
ومرة أخرى: هو كلام حق، أريد به تسويغ باطل.
ولتفصيل ذلك مقام آخر..
هكذا تفتتت معاني البطولة والمسؤولية..
ولكي لا يمّحي لفظ “البطولة” من المعاجم، بعد أن زالت معانيها في الواقع، فقد اخترعوا لنا أبطالا على مقاس العصر البائس الذي نعيش فيه..
أبطال لا تكلفهم بطولتهم كبير شيء، بل يتقاضون على بطولتهم أجرا ماديا وافرا!
أبطال الرياضة (الذين يدافِعون عن العلم الوطني!) وأبطال الفنّ والطرب (الذين يمثلون الوطن في المحافل الدولية)، وقِس عليهم أشباهَهم.
وهكذا أيضا صار الجميع ضحية..
ضحية عاجزة عن التغيير، ضعيفة في مضامير الإصلاح، غير مسؤولة عن ضعفها وذلها..
ولم يقتصر ذلك على “دائرة الإجرام” كما سبق، بل تعداه إلى كل حالات الهوان والضعف والتقصير التي نعاني منها..
فما أكثر الذين يتشبثون عندنا اليوم بدور الضحية التي تستجدي التضامن والعطف، بدلا من السعي للتأثير وفرض الاحترام وامتلاك مفاصل السلطة الحقيقية..
لكن التاريخ لا يرحم..