د. البشير عصام يكتب: من جنى اليراع.. فقهُ الدوامة الشَّرَكية..
هوية بريس – د. البشير عصام المراكشي
الحديث الرابع عشر.. #من_جنى_اليراع : فقهُ الدوامة الشَّرَكية..
الدوامةُ الشَّرَكية (l’engrenage) آلة مكونة من أسطوانتين عريضتين، على جانب كل واحدة منهما أسنانٌ مرتبة على مسافة واحدة بينها، بحيث إذا وُضِعت السنّ الأولى من الأسطوانة الأولى في الفُرجة المقابلة من الأسطوانة الثانية، استمرت الأسنان التالية في الاندراج في مواضعها بالتتابع، واستمر دوران الأسطوانتين في اتجاهين مختلفين.
في عالم السياسة والاقتصاد، تستعمل نظرية الدوامة الشَّرَكية (théorie de l’effet d’engrenage) لوصف الأثر الآلي الناتج عن الحركية الداخلية للظواهر، فيقع المرور من مرحلة إلى أخرى بطريقة آلية تقريبا، دون حاجة إلى تدخل خارجي.
وأشهر مثال عندهم: مراحل تأسيس الاتحاد الأوروبي – كما تقرره المدرسة الوظائفية (fonctionnalisme). فقد انتقل الأوروبيون من مرحلة تأسيس منطقة للتبادل الحر، إلى الوحدة الجمركية، إلى السوق المشتركة، إلى السوق الموحدة، إلى العملة الموحدة، وهلم جرا، في متوالية من المراحل الاقتصادية -المرفَقة بقرارات سياسية- تؤول كل واحدة إلى التي تليها، دون أن يكون بالإمكان الرجوع إلى الوراء، لأن التكلفة ستكون حينئذ أكبر، والتبعات أثقل!
ما الذي يعنينا من الاتحاد الأوروبي ومراحل تأسيسه؟
يعنينا أن النخب المتحكّمة تعمل بنظرية “الدوامة الشرَكية” في مجالات مختلفة، فتكتفي بفرض الخطوة الأولى -أي بوضع السن الأولى من الدوامة في موضعها- ثم يستمر التداعي تلقائيا دون حاجة إلى التدخل فيه..
ومن اعترض على المرحلة الثانية، يهدَّد بأن الاكتفاء بالأولى سيؤدي إلى مهالك ومخاطر، وأن إصلاح عيوب المرحلة الأولى لن يكون إلا بالانخراط في الثانية، وأن استمرار “دوران العجلة” يقتضي الانتقال من الأولى للثانية ولا بد، ثم من الثانية للتي بعدها، وهكذا دواليك..
وهذا المنهج التدرجي الذي تسير عليه هذه النخب لفرض منظوماتها السياسية والفكرية والثقافية، مفهوم عندي دون إشكال..
لكن الذي يعسر على فهمي هو أن الذي يسعى لإصلاح المسير يقبل -لجهل أو لحسن نية أو لسوء قراءة للواقع- أن ينخرط في المرحلة الأولى من الدوامة، مع أن القرائن تدله على أن هذه المرحلة ستفضي به إلى ثانية وثالثة، إلى أن يصل إلى الأخيرة المحذورة المرفوضة!
ولذلك أمثلة لا تحصى..
ففي ميدان الإصلاح السياسي -الذي ينقلب فيما بعد إلى مدافعة “سياسوية” ضيقة الحدود والمعالم- يبدأ الشرَك القاتل، بالخطوة الأولى في مجال اللعبة السياسية التي تحكمها قواعد علمانية مسطرة، لا سبيل إلى الالتفاف حولها.
فتفرض هذه الخطوةُ، خطوةً أخرى هي التنازل عن المرجعية الفكرية المناقضة للقواعد العلمانية المهيمنة على اللعبة؛ ثم تأتي خطوة أخرى هي الانحسار من المطالبة بتحقيق أصول الشريعة الكبرى، إلى المطالبة بتخفيف الفساد في المجال المادي الدنيوي -والتي يمكن لأي تقنقراطي نزيه أن يتبنى المطالبة به-؛ وصولا إلى الخطوة الأخيرة وهي اللعب على هامش الملعب، في توافه القضايا، حين تكون أمهات القضايا بيد اللاعب الحقيقي، أي: النخبة المتحكمة في القرار، والتي صنعت “الدوامة الشركية” وفرضت أصول دورانها..
وفي المجال الفقهي -أو قل: في مجال علاقة الفقه الإسلامي بالمستجدات التي يفرضها الواقع غير الإسلامي- تضع العلمانيةُ المهيمنة “دوامةً شركية” تنغرز أسنانها في الجسم الفقهي، فتنكّل به وتقطع أوصالَه، وتشتتها شذر مذر، إلا في حالةِ تفطُّنِ الفقيه لخطورة الأمر، وعدم استجابته للتدرج الشيطاني المفروض على “فتاواه”!
وخذ مثالا على ذلك من قضية الزنا، وتعامل الفقيه المعاصر مع الواقع الذي فرضته الحضارة العصرية، في مقدمات الزنا وأسبابه، وفي نتائجه وثمراته المرّة.
بدأت “الدوامةُ الشركية” الأولى بعيد الاستقلال السياسي عن المحتل الأجنبي. وكانت خطوتها الأولى بفتح أبواب كثيرة في فقه المرأة، كانت موصدة من قبل، وذلك لمتابعة الواقع المتسارع. فكان التحلل التدريجي من لباس المرأة التقليدي، والخروج غير المنضبط للمرأة إلى الدراسة ثم العمل، وتسارع الفن والأدب إلى الحديث عن علاقات الحب بين الجنسين، وما أشبه ذلك. وأباح الفقيهُ أمورا من هذا القبيل، رأى أن الواقع الحديث يفرضها، وَرَجا أن تنضبط تلك الأمورُ بموازين التدين الفردي والأخلاق المجتمعية المحمودة، فلا تفضي إلى الكارثة!
ولكن “الدوامة الشركية” عمِلت عملَها، فما زال الحال في انحدار حتى فشا الزنا في الأمة، وانتشرت آثاره الهدامة في كل مكان..
وحين استقر الزنا أمرا واقعا، لا يخاف مرتكبُه عقوبة مادية ولا معنوية، بدأت مخلّفاته الاجتماعية الخطيرة تفرض “دوامة شركية” ثانية، أول خطواتها إثبات النسب من الزنا، ثم تتبعها خطوات!
وبين دوامة أولى تفضي إلى نشر الزنا وجعله أمرا واقعا، ودوامة ثانية تنطلق من الوجود الفعلي للزنا فتسوغ آثاره وتطبّع مع نتائجه، يصبح الحديث عن التحريم الشرعي للزنا حديثا لا معنى له، ولا اتصال له بالواقع!
وهذا بالضبط ما يقصد إليه الذين يرقِّصون الدُّمَى على الخشبة..
ولا ينجو الفقيه من فخ التسويغ، إلا برفض الخطوة الأولى..
لكن هذا فقهٌ خاص، يجمع بين معرفة التراث الفقهي، وحسن فهم الواقع.
وبين فقيهٍ ظاهري المشرب يحاول تكسير الدوامة بعد وصولها إلى منتهاها (كالذي يفتي اليوم بحرمة خروج المرأة للدراسة لعلة الاختلاط)، وفقيهٍ مقاصدي المنزع يَقبل الخطوة الأولى من كل دوامة جديدة يستحدثها المتحكمون بدعوى التيسير أو المصلحة أو المقاصد (كالذي يفتي اليوم بإثبات نسب ولد الزنا)؛ ضاع الفقه الحكيم المتوازن، الذي يمنع الخلل في بداياته سدا للذريعة، ويحسن التعامل مع الخلل المستقر لتخفيفه بالتدريج، في أفق اجتثاثه كاملا.
هذا الفقيه الحكيم يمكنه أن يفتي فتوى فردية يتوخى فيها سبيل رفع الحرج والمشقة، ولكنه لا يحوّل الحرام حلالا تحت ضغط الواقع الجارف – كما يفعل “فقيه الدوامة”.
مع الفقيه الحكيم يبقى الحكم الشرعي المستلهَم من النصوص ثابتا راسخا، يفيء الناس إليه متى انتقل الحكم من صورة الضرورة إلى صورة السعة. ومع “فقيه الدوامة” تتغير المفاهيم الشرعية، وتنحرف قواعد الدين، وتضيع أصوله.
وبين المقامين فرقٌ عظيم..
السلام.الاختلاط في الدراسة حرام والف حرام رغم انف الواقع ورغم انف الفقيه المقاصدي الدنيوي .