د. البشير عصام يكتب: من جنى اليراع.. من حديث الحب والغزل..
هوية بريس – د. البشير عصام المراكشي
الحديث الثالث عشر: #من_جنى_اليراع.. من حديث الحب والغزل..
حدثني بعض أصدقائي منذ سنوات معدودة، عن بعض المنسوبين إلى التدين المظهري المنقطع عن أصول التدين التربوي، أنه في ليلته الأولى مع زوجه كان يخاطبها بلغة الآمر الناهي، ولا يناديها إلا بلفظ “أيتها الأخت”! فكان ذلك مما أرعبها وأدخل في قلبها من بغضه ما استمر أثرُه فيما بعدُ طويلا..
وحدثني آخرون عن أحد الشبان المنسوبين إلى التحرر الفكري والتماهي مع الثقافة الغربية المعاصرة، أتقن فنّ الكلام المعسول مع الجنس الآخر، فجعل ذلك شباكا يصطاد بها مَن تَفتِنها الدعاوى والوعود، وما همّه – في حقيقة الأمر – إلا إرضاء نزواته الجسدية..
نحن أمام نموذجين افتقدا أحد أعظم المشاعر الإنسانية: الحب.
أولهما: ألجم لسانَه فهمٌ منكوس للدين، وتراكم للتأصيلات الشرعية المنحرفة الجوفاء، التي تغفل جوانب إنسانيةِ الإنسان.
والثاني: غلبت على فكره الماديةُ الجارفة، فسترتْ بقيةَ الإحساس الجميل في قلبه، وحولته إلى بهيمة في مسلاخ إنسان.
ولِكِلا النموذجين أسبابٌ وأصول..
ولكلا الخللين علاجات وحلول..
سبحان القائل -تبارك وتعالى-: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
وصلى الله وسلم على القائل لسائله عن أحب الناس إليه: “عائشة”!
صلى الله وسلم على الذي قال عن خديجة -وتناقل الناسُ قولَه-: “إني رُزقت حبَّها”!
صلى الله وسلم على الذي تعجب من شدة حب مغيث لبريرة، لكنه لم ينكر عليه ذلك، بل شفع له عندها!
ورضي الله عن الصحابة الذين نضحت أفعالُهم بالحب الصادق العفيف، وتفتقت ألسنتهم تعبيرا عنه باللفظ اللطيف الظريف.
ذكر الحافظ الجليل ابن عبد البر أن عبد الله بن أبي بكر تزوج عاتكةَ بنت زيد بن عمرو بن أبي نفيل، فأولع بها حتى شغلته عن بعض مغازيه، فأمره أبوه الصديق بطلاقها لأجل ذلك، وعزم عليه حتى طلقها على مضض، فتبعتها نفسُه. ودخل عليه أبوه فوجده يقول:
أعاتكُ لا أنساكِ مَا ذرَّ شارق = وما ناح قُمريُّ الحمامِ المطوق
أعاتك قلبي كلَّ يوم وليلة = إليكِ بما تخفي النفوسُ معلّق
ولم أرَ مثلي طلقَ اليومَ مثلَها = ولا مثلها فِي غير جُرم تطلّقُ
لها خلُق جَزْلٌ ورأي ومنصبٌ = وخلْق سويٌ فِي الحياء ومصدق
فرقّ له أبوه وأمره أن يراجعها..
وقصةُ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجها أبي العاص بن الربيع، طويلة زكية طيبة، فلتراجع في ترجمة هذين الصحابيين العظيمين.
وسارت الأمة في بداياتها على هذه المعاني السامية: تساهل و”تفهّم” في التعامل مع المشاعر، وصرامة ووضوح في الحكم على الأفعال..
وهكذا نقل الفقهاءُ والحفاظ قصصا عن الرعيل الأول، تلين عند ذكرها الطباع الجاسية، وتتطامن القلوب القاسية..
قال الحافظ ابن عبد البر أيضا في بهجة المجالس (وجماعة كثيرون لا أنشط لجمعهم):
(نظر أبو حازم بن دينار إلى امرأة حسناء ترمى الجمار أو تطوف بالبيت، وقد شغلت الناس بالنظر إليها لبراعة حسنها، فقال لها: أمة الله! خمري وجهك، فقد فتنتِ الناس، فهذا موضع رغبةٍ ورهبة. فقالت له: إحرامي في وجهي أصلحك الله يا أبا حازم، وأنا من اللواتي قال فيهن العَرجي:
من اللاّءِ لم يَحْجُجْنَ يبغين حِسْبةً = ولكنْ ليقْتُلْن التقيّ المُغفّلا
فقال أبو حازم لأصحابه: تعالوا ندع الله ألا يعذب هذه الصورة الحسنة بالنار!).
ونقل أيضا عن المدائني عن عبد الله بن عمر العمري، قال: (خرجت حاجاً فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلامٍ أرفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، وقلت: يا أمة الله! ألست حاجة؟ أما تخافين الله؟
فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا، ثم قالت: تأمل يا عمريّ، فإني ممن عناه العرجي بقوله:
أماطت كِساءَ الخزّ عن حُرِّ وجهها = وأدْنَتْ على الخدين بُردًا مُهَلهْلاَ
من اللاّءِ لم يَحْجُجْنَ يبغين حِسْبةً = ولكنْ ليقْتُلْن التقيّ المُغفّلا
وترمي بعينَيها القلوبَ ولحظِها = إذا ما رَمَتْ لم تُخْطِ منهن مَقْتَلا
قال: فقلت: فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار. قال: وبلغ ذلك سعيد بن المسيب، فقال: أما والله لو كان من أهل العراق، لقال: اغربي قبّحك الله، ولكنه ظرف عُبّاد أهل الحجاز!).
ونقل ابن عساكر والذهبي وغيرهما عن يحيى بن معين قال: (كنت بمصر، فرأيت جارية بيعت بألف دينار، ما رأيت أحسن منها، صلى الله عليها!، فقلت: يا أبا زكريا، مثلُك يقول هذا؟! قال: “نعم، صلى الله عليها وعلى كل مليح”).
وليست العبرة في مثل هذه القصص بتحقيق أسانيدها على طريقة المحدثين – كما يلجأ إليه بعض المعاصرين حين تثقل عليهم هذه المعاني – وإنما العبرة بتسجيل تناقل الأئمة المحققين لها في كتبهم دون نكير، بل مع حملها على أحسن المحامل وأجملها.
وقد نقل الأئمة أيضا قصائدَ شعراء الغزل المعروفين، وأثبتوها وأُعجبوا بما فيها من الرُّواء الأدبي والبهاء الشاعري. ولعل قدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنشده الصحابيُّ كعب بن زهير قصيدتَه “بانت سعاد”، وفي أولها غزل صريح. ويحسن في هذا المقام مراجعة كتاب الأديب الفقيه علي الطنطاوي الموسوم بـ”من غزل الفقهاء”.
وقد تأملت هذا الموضوع فوجدتُ أمرين جديرين بالتدبر:
أولهما: أن ما أضاع الناس من تذوق الأدب القديم عموما -وشعر الغزل منه خصوصا- هو الذي كبّهم -من ضمن أسباب أخرى كثيرة- في مستنقع المجون والإباحية والتحلل الأخلاقي. وأن ردة الفعل المفرطة في تحريم الغزل والأدب عند بعض المعاصرين، سببُها تخيّل المجون في كل كلام غزلي، بسبب ضعف ذائقة المحرّمين في المجال الأدبي، فما حرّموا الغزل إلا لتوهم المجون (كما قيل في سياق آخر: لا تعطيل إلا بعد توهم التشبيه).
والثاني: أن اللغة العربية العالية التي نُظمت فيها قصائدُ الغزل القديم تسمح -بطبعها- بالسمو والتعالي، أما العامية -التي لا يكاد يتذوق المعاصرون غيرَها- فإنها تلائم حضيض النزعات الجسدية.
إن الذي يَستحسِن كلامَ كثيّر والمجنون وجميل والعرجي وأضرابهم، ويهفو قلبه لشعرهم الراقي، تصغُر في عينه تفاهات المعاصرين، المغرقةُ في الحسّية والشهوانية.
ولننتقل إلى سياق آخر، نتعرف فيه إلى أصول النموذج الثاني..
تخلّت الحضارة الغربية منذ قرون عن مرجعية الدين، وعن الاستجابة للجانب الروحي في الإنسان. وطغت الماديةُ على نظرة الإنسان الغربي إلى الكون والحياة.
ودخلت هذه النظرة المادية إلى كل شيء، حتى إلى أبعد الأشياء عن المادة، أي: مجال المشاعر والأحاسيس – والحبُّ مِن أرقاها وأعظمها.
وظهرت في الغرب المتحرر من المرجعية الدينية المتجاوزة، نظريات فلسفية، ومذاهب أدبية كثيرة، تلغي سموّ الحب، وتَمحق بُعدَه الراقي، وتحصره في تلبية الرغبات الجسدية.
بدأ ذلك بالانعتاقية الفلسفية (libertinage philosophique) التي وقعت فيها إعادةُ قراءة الفلسفة الأبيقورية، ثم تأسيس الانعتاقية الأدبية (كتابات دو ساد نموذجا)؛ ووصل إلى بروز الجنس كشبكةِ قراءةٍ تأويلية وحيدة وطاغية في تحليل النفس البشرية عند المدرسة الفرويدية؛ مرورا بقول جان جاك روسو المعبّر عن حقيقة نظرة الغربي المتحرر المتنور إلى مفهوم الحب: (الحبُّ شيء اخترعته النساء ليتمكن هذا الجنس من أن يسيطر، مع أنه إنما وُجد ليطيع).
L’amour a été inventé par les femmes pour permettre à ce sexe de dominer, alors qu’il était fait pour obéir
ثم أخيرا وصل التفريقُ بين الحب والجنس إلى ذروته، خضوعا لثقافة السوق، التي تناولت الموضوع بهيمنتها المعهودة، فاستخرجت أحطَّ ما في الإنسان من البهيمية، وجعلت الجنس مُرادا لذاته دون أن يكون تعبيرا عن شعورٍ بالحب، وذلك بطريق الدعارة المقنّنة، والفن الإباحي، اللذَين يدرّان أموالا ضخمة على المتحكمين الرأسماليين!
نعم من الصحيح أن السنوات الأخيرة عرفت عودةً لتمجيد الحب، وما يصاحبه من قيم الوفاء وكراهة الخيانة (لما فيها من أذى للآخر)، وكان ذلك لمحاولة إنقاذ الحضارة الحديثة من سيل المُتَعية والتحرر الجنسي الهادر.
ولكن غلبة المادية وضياع القيم المقدّسة المتجاوِزة أدى إلى مفارقة عجيبة يعيشها الإنسان الغربي المعاصر: فهو يرفع شعار الحب، ويحلم به، ويتحدث عنه كثيرا، ويعبر عنه لمحبوبه بإفراط، ولكنه في الحقيقة ضعيف جدا أمام دواعي الجسد، وما أسرع ما ينتقل -تبعا للنزوات الجسدية- من حب إلى آخر، ومن مغامرة إلى أخرى، لأن ذلك من صميم حريته الفردية؛ والحريةُ الفردية في الحضارة الفردانية “ما بعد الحداثية”: أقدسُ المقدسات.
هذا الإنسان الغربي المتناقض هو قدوة النموذج الثاني الذي ذكرتُه في أول هذا المقال، والذي لا يلزم أن يكون مخادعا وكاذبا في دعاواه، ولكنه معبّرٌ بأمانة عن الثقافة العصرية المهيمنة.
إن من أسباب انتشار العشق الفاحش، والانحلال الأخلاقي: هذا الخضوعُ المَرضي المنحرف لرغبات الجسد، في انفصال تام عن رقيّ المشاعر الروحية السامية.
وإن من أهم الوسائل للتصدي لهذا السفول: إحياءُ الحب العفيف المحمود، الموافق للطبع السليم والفطرة النقية، والذي يمكن به تنفيس الرغبات الفطرية للإنسان، دون وقوع في حمأة الشهوانية.