د.الريسوني يكتب: الحدود.. ما هي؟ وما حدودها؟
هوية بريس – د.أحمد الريسوني
الحدود في اللغة والاصطلاح
قال الراغب الإصفهاني رحمه الله في (المفردات):
“الحدُّ: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. يقال: حَدَدْتُ كذا:جعلت له حدّا يميّزه، وحَدُّ الدار: ما تتميز به عن غيرها، وحَدُّ الشيء: الوصف المحيط بمعناه المميّز له عن غيره، وحَدُّ الزنا والخمر، سمّي به لكونه مانعا لمتعاطيه من معاودة مثله، ومانعا لغيره أن يسلك مسلكه، قال الله تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِفَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق/ 1] ، وقال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة/ 229] ، وقال: (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) [التوبة/ 97] ، أي: أحكامه، وقيل: حقائق معانيه.
وجميع حدود الله على أربعة أوجه:
– إمّا شيء لا يجوز أن يُتعدّى بالزيادة عليه ولا القصور عنه، كأعداد ركعات صلاة الفرض.
– وإمّا شيء تجوز الزيادة عليه، ولا تجوز النقصان عنه.
– وإمّا شيء يجوز النقصان عنه،ولا تجوز الزيادة عليه.
– وإمّا شيء يجوز كلاهما”.
وقال ابن تيمية في (السياسة الشرعية): “فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام، مثل آخر الحلال وأول الحرام، فيقال في الأول: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} ويقال في الثاني: {تلك حدود الله فلا تقربوها}”
ولكن الاصطلاح الفقهي له استعمال خاص ومضيَّق لمعنى “الحدود”، هو الذي أصبح الأكثر اشتهارا على الألسنة، رغم أن كثيرا من الفقهاء لا يلتزمونه بحذافيره.
قال علاء الدين الكاساني في (البدائع): بعدما عرّف الحد لغة:
“وفي الشرع: عبارة عن عقوبة مقدَّرة، واجبة حقا لله تعالى عز شأنه، بخلاف التعزير فإنه ليس بمقدر، قد يكون بالضرب، وقد يكون بالحبس، وقد يكون بغيرهما، وبخلاف القصاص فإنه وإن كان عقوبة مقدرة، لكنه يجب حقا للعبد، حتى يجري فيه العفو والصلح”.
أقوال الفقهاء في تحديد الحدود
تتفاوت قائمة “الحدود” بين المذاهب، بل من فقيه لآخر..
فالمتفق عليه منها أربعة، ثم تتفاوت الأقوال بالزيادة والنقصان.
قال أبو الحسن الماوردي في (الحاوي في فقه الشافعي):
“الحدود على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان من حقوق الله تعالى المحضة.والثاني: ما كان من حقوق الآدميين المحضة.والثالث: ما كان من الحقوق المشتركة.
فأما حقوق الله تعالى المحضة: فحد الزنا، وقتل الردة، وحد شرب الخمر…
وأما حقوق الآدميين المحضة: فالقصاص، وحد القذف…
وأما الحقوق المشتركة التي يتعلق بها حق الله وحقوق الآدميين: فهي السرقة…”.
فهي هنا ستة، وقد جعل من بينها القصاص.
وإدخال القصاص في الحدود هو ما نجده أيضا في (المدونة) مرويا عن الإمام مالك؛ قال مالك: “القتل عندي حد من الحدود”، بينما عامة الفقهاء يجعلون القصاص قسما مستقلا إلى جانب الحدود، وليس جزءا منها.. قال التهانوي في (كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم):عن معنى الحدود عند الفقهاء:”عقوبةٌ مقدرة تجب حقّا لله تعالى. فلا يسمّى القصاص حدّا لأنه حق العبد. ولا التعزير لعدم التقدير”.
ومن وجوه التوسع في الحدود، ما جاء في (حاشية الدسوقي): “النفي حدٌّ من جملة الحدود كالقطع”.
وزاد بعضهم حد السحر وحد الزندقة..ففي «شرح إرشاد السالك في مذهب إمام الأئمة مالك»،قال الشارح (أبو بكر الكشناوي):”ولمَّا أنهى الكلامَ[1] على ما تعلّق بالحرابة، انتقل يتكلم على حُكْم حدّ الساحر والزنديق وغيرهما.
فقال رحمه الله تعالى: “وَيقْتَلُ السَّاحِرُ وَالزَّنْدِيقُ”، يعني أن السحر حرام يُقْتَلُ صاحبه إذا ظفر به ولا يقبل توبته. قال النفراوي في (الفواكه): يجب قَتْلُ المسلِم الساحر ولا تُقْبَل توبته، وهو الذي يصنع السحر بغيره، كأن يفرَّق بين المرأة وزوجها، أو يُذْهِب عَقْلَ غيره، أو يفعل فِعْلاً يغيَّر به صورة غيره، كتغيُّر صورة إنسان بصورة حمار أو كلب، إلى أن قال: والدليل على قَتْلِ الساحر ما خرّجه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم: “حدّ الساحر ضربه بالسيف”[2].
ومعلوم أيضا أن كثيرا من الفقهاء يقولون بقتل تارك الصلاة حدا، أي جعلوا قتله من جملة “الحدود”. ومنهم من قال ذلك في الصوم أيضا. فيصير عندنا: “حد ترك الصلاة” و”حد ترك الصوم“!!
بينما قال علاء الدين الكاساني – الحنفي – في (البدائع): “الحدود خمسة أنواع: حد السرقة، وحد الزنا، وحد الشرب، وحد السكر، وحد القذف”.
وإذا اعتبرنا “حد الشرب وحد السكر” حدا واحدا، صارت الحدود عنده أربعة فقط!
وفي (فتاوى قاضيخان) – وهو حنفي أيضا – قال: “الحدود خمسة: حد الزنا، وحد الشرب، وحد القذف، وحد السرقة، وحد قطع الطريق”، فزاد قطع الطريق، خلافا لصاحبه الكاساني.
ومن المعاصرين نجد الشهيد عبد القادر عودة في (التشريع الجنائي الإسلامي) ينص على “حد الردة”، من جملة الحدود،ثم يزيد “حد البغي”!
قال رحمه الله: “وجرائم الحدود معينة ومحدودةُ العدد، وهي سبع جرائم:(1) الزنا (2) القذف (3) الشرب (4) السرقة (5) الحرابة (6) الردة (7) البغي”.
وإذا كان الفقيه القانوني، القاضي عبد القادر عودة، قد مال إلى التكثير من الحدود وتضخيمها، فإن فقيها سلفيا بارزا يعاكسه ويميل إلى الاعتدال والتقتير فيها؛ وأعن به العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله. فقد حصر الحدود في أربعة، وأخرج منها “حد الشرب” “وحد الردة”.
ففي (الشرح الممتع على زاد المستقنع): قال: “فلنستعرض الحدود وهي: حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد قطع الطريق…”.
ثم قال: “ويرى بعض العلماء أن من الحدود الردة، ويكتبون هذا في مؤلفاتهم، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن الردة إذا تاب المرتد، ولو بعد القدرة عليه، فإنه يُرفع عنه القتل، ولا يقتل، ولو كانت حدا ما ارتفع بعد القدرة عليه؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة].فالصواب أن القتل بالردة ليس حدا”.
وقال عن عقوبة شارب الخمر: “وأما شرب الخمر فقد اختلف العلماء؛ هل هو حد أو تعزير؟
فأكثر أهل العلم على أنه حد، ثم اختلفوا هل هو أربعون، أو ثمانون، أو يخير الإمام بينهما؟.
ومن تدبر عقوبة شارب الخمر، عرف أنها تعزير لا حد، لكنه لا ينقص عن أربعين جلدة.
ودليل ذلك أنهم كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يؤتى بالشارب فيقوم الناس إليه يضربونه، منهم من يضرب بيده، ومنهم من يضرب بالنعل، ومنهم من يضرب بالرداء أو بالجريد أو ما أشبه ذلك. ولهذا جاء في بعض ألفاظ الحديث: «نحوا من أربعين». ثم إن أبا بكر رضي الله عنه جلد أربعين، ثم جلد عمر رضي الله عنه أربعين. ولما كثر شرب الخمر جمع الصحابة رضي الله عنهم يستشيرهم، وهذا من دأبه رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أخف الحدود ثمانون، يعني فاجلد شارب الخمر ثمانين، فأقر ذلك عمر. وعمر له سنة متبوعة فلا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، وسموا ذلك حدا. لكن من تدبر النصوص الواردة في ذلك عرف أنه ليس بحد، وأنه تعزير لا ينقص عن أربعين جلدة؛ لأنه لو كان حدا ما استطاع عمر رضي الله عنه ولا غيره أن يزيد فيه. ولهذا لو كثر الزنا في الناس – نسأل الله العافية – هل يمكن أن نزيد على مائة جلدة؟
الجواب: لا يمكن حتى لو كثر الزنا، فكون أمير المؤمنين عمر ومعه الصحابة رضي الله عنهم يزيدون على ذلك، يدل على أن المقصود هو التعزير الذي يردع الناس عن هذا الشيء الخبيث.
ودليل آخر: قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (أخفُّ الحدود ثمانون)، وأقره الصحابة، إذا لا يوجد حد يقدر بأربعين جلدة، وهذا يشبه أن يكون إجماعا، لأن عمر رضي الله عنه لم يقل: لا أزيد؛ لأن فيه حدا. فالصواب أنه تعزير، وبناء على ذلك لو كثر شرب الخمر في الناس، فلولي الأمر أن يزيد على ثمانين بالكمّ أو بالنوع أو بالكيفية، حتى لو أنه رأى أن يعزر شارب الخمر بغير ذلك فلا بأس، إلا أنه لا يقطع عضوا من أعضائه؛ لأن بدن الإنسان محترم، وليس فيه قطع، اللهم إلا السارق وقطاع الطريق”.
والخلاصة هي:
أن الحدود في الاستعمالات الشرعية:
قد تطلق على أحكام الله التي رسمت حدودَ الحلال والحرام؛ كأحكام الزواج والطلاق، والمواريث والبيوع، والصدق والكذب…
– وقد تطلق على أي عقوبة شرعية وضعت للمنع والردع عن الفساد والتعدي.
– وقد تطلق بالمعنى الخاص المضيق، فتعني عقوبات معينة ومحددة، لا تحتمل زيادة ولا نقصانا، كما لا تقبل إسقاطا ولا عفوا ولا صلحا. وهو المعنى المشتهر، الذي أصبح يتبادر إلى الأذهان عند ذكر “الحدود”.
وأن القول بأن “حكم الردة”هو حدٌّ من هذه الحدود، بمعناها الاصطلاحي الفقهي المضيق، ثم القول بأن هذا أمر مجمع عليه، كلام غير محقق وغير صحيح. وأن أقصى ما يمكن قوله: هو أن بعض الفقهاء عدُّوه فعلا من جملة “الحدود”، وأن بعضهم ذكروه ضمنها أو معها، مثلما يذكرون معها القصاص والبغي وبعض التعازير، أي العقوبات بالمعنى العام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1]يقصد مؤلفَ الكتاب المشروح: شهاب الدين عبد الرحمن بن محمد بن عسكر (ت732)
[2]الحديث ضعيف لا تبنى عليه حتى ضربة سوط، فكيف بالقتل!