د.الصمدي يكتب: ما بعد طوفان الأقصى؟
هوية بريس – د.خالد الصمدي
يكفي غزة شرفا أنها فتحت أعين العالم على إفلاس المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وأنها أعطت انطلاق التفكير العميق في ميثاق عالمي جديد لحقوق الإنسان بعد ما يقرب من قرن من الزمان عن الإعلان الأول 1948 والذي جاء بدوره إثر انتهاكات فظيعة لهذه الحقوق في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
فقد كشف تاريخ 7 أكتوبر وما تلاه من أحداث عن حقيقة ترهل المواثيق الدولية لحقوق الانسان التي لطالما دافعت عنها المنظمات الدولية، ووضعت العديد من عرابيها الذي سوقوا لسموها في بلدان العالم الثالث أمام “مراياهم” الحقيقية، بعد ما دافعوا عن هذه المنظومة لردح من الزمن، ودعوا إلى تكييف المنظومات الأسرية والتعليمية والقانونية الوطنية معها، باعتبارها الخلاص المحتوم والجنة الموعودة.
حتى أصبح العالم يشاهد كل لحظة قصف الأطفال والنساء والمستشفيات والمباني السكنية والمدارس، ومقرات منظمات الإغاثة الدولية ودفن الأحياء تحت الأنقاض، وقتل العجزة ونساء ورجال الصحافة والإعلام بدم بارد، تحت أنظار المنظمات الدولية الحامية لحقوق الإنسان لما يقرب من ستة أشهر،
فأصبح الرأي العام بصفة عامة، والغربي على وجه الخصوص يعيش تحولا عميقا في مجال ثقافة حقوق الإنسان حين اكتشف هذا التناقض، الذي جثم على قلبه وفكره طيلة ما يقرب من قرن من الزمان، حيث كان هذا العالم قد خرج للتو من الحربين العالميتين وأصبح يتوق إلى الأمن والسلام والعيش الكريم والاستقرار، وأصبح يخشى على كل ما يمكن أن يهدد هذه المكتسبات ويعيده إلى نفس الوضع الرهيب، فاستغلت الصهيونية العالمية هذا الوضع لتصدير كل النزاعات والصراعات خارج الفضاء الغربي، فرمت باليهود بعد الهولوكوست طوعا أو كرها خارج هذا الفضاء، وقضت على خطوط التماس مع العالم الإسلامي في مجازر البوسنة والهرسك، وعكفت على الاشتغال بكل الوسائل الممكنة على إضعاف بقية العالم، وإغراقه في الخلافات والنزاعات خاصة في العالم الإسلامي حتى لا يستفيق يوما، وذلك باستثمار التناقضات العرقية والإثنية والاقتصادية والسياسية بعد إضعاف الأسس الجامعة وعلى رأسها الدين الإسلامي وقيمه الحضارية.
وقد عانت شعوب العالم غير الغربي طيلة قرن من الزمان من ثقل هذه الضغوطات الغربية للتخلي عن هويتها الدينية والثقافية فحرمتها من مناعتها، وقدرتها على الدفاع عن أوطانها ومصالحها مع الأغيار في هذا العالم بمنطق رابح رابح، ومن حقها في الاستثمار في ذاتها وهويتها ومقدراتها الإنسانية والطبيعة حتى تنهض من جديد.
ثم استغلت القوى العظمى هذا الضعف لتبني منظومة فئوية لحقوق الإنسان على المقاس، قائمة على التمييز بين الإنسان الذي يوجد في الغرب، وسواه من المخلوقات التي ربما لا تستحق هذا الوصف (الإنسان) وأسست لذلك مؤسسات دولية بدورها على المقاس أيضا محمية بالقوة العسكرية والإعلامية والاقتصادية والمعلوماتية وبظلم الفيتو، دون أن تحرك ساكنا لمشاهد المحرقة والتطهير العرقي والإبادة الجماعية التي يشاهدها العالم في غزة كل لحظة، مما جعل المنظومة الحقوقية برمتها تطرح أكثر من سؤال.
فبأي منظور يمكننا اليوم أن نحدث أبناءنا وبناتنا في المدارس عن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهم يشاهدون أشلاء الأطفال الممزقة تطير في الهواء كل يوم بأسلحة الغرب وبدعمه اللامحدود لكيان محتل غاصب؟
وبأي منظور يمكننا أن نطلب من الناس أن يثقوا في هذه المواثيق الدولية والاستناد إليها في تغيير منظوماتهم الأسرية والاقتصادية والثقافية بعد حالة الإفلاس هذه التي اعترف بها عدد من كبار المدافعين عن هذه المواثيق في المنابر والجامعات؟
لقد انكشف هذا المنظور الفئوي الانتقائي لحقوق الإنسان وأعلن عن إفلاسه بالتدريج حتى انفجر الوضع في 7 اكتوبر، والذي لا يعتبره عدد من المراقبين حدثا محدودا ومعزولا غايته تحرير وطن في سياق معين في بقعة جغرافية معينة ينتهي بإحياء ما يسمى بحل الدولتين، بل اكتشف العالم أنه حدث عظيم وتحول كبير يفتح المجال أمام تحرير العالم من النظرة الأحادية لحقوق “الإنسان الغربي” وفتح النقاش فعليا على أعلى المستويات في إرساء “إعلان عالمي جديد لحقوق الإنسان” يشمل كل الإنسان عنوانه “ولقد كرمنا بني آدم” “ولا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود الا بالتقوى“، و”يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا“، وكل ما يرسخ هذه القيم في الأمم والشعوب على اختلاف أديانها وثقافاتها وحضاراتها، وفي سياق قيم التعايش والاعتراف بالاختلاف والحوار والاقناع والجدال بالتي هي أحسن، وهذا أكبر تحد يواجه العالم ما بعد طوفان الأقصى.
الذي يدفع التفكير بعد تحرير الأوطان في فتح ملف ميثاق عالمي جديد لحقوق الإنسان.