د. الودغيري ردا على توضيح الوزير بنعبد القادر بخصوص اللغة العربية يكتب: مغالطاتٌ تلو مغالطات
هوية بريس – د. عبد العلي الودغيري
سبق لوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أن تناقلت الخبر الذي يقول إن وزير الوظيفة العمومية في الحكومة الحالية صرَّح مؤخَّرًا في ندوة بأن (العربية لغة ميتة). وبعد الضجة الكبيرة وحملة الاستنكار الواسعة التي أعقبت هذا الخبر، نشر الوزير حسب بعض المواقع تصريحًا جاء فيه: «قلت إن المناهج المعتمدة في تدريس اللغة العربية هي مناهج ميتة ولم أقل أن العربية لغة ميتة ». وأضاف: «في هذا الوقت اللغة العربية لها الكثير من الوظائف وتدريس العلوم يجب أن يكون بلغات العِلم الذي لا تنتجه العربية في الوقت الحالي، وحتى لا نرهن الأجيال المقبلة يجب تدريس العلوم بلغة العلم، مشددًا على أنه تكلم على تحديث مناهج تدريس اللغة العربية حتى تصبح لغة للعلم».
ورغم أن هذا التصريح / التوضيح قد خفَّف من لهجة التحامل على اللغة العربية كما نُشِرَت من قبل، إلا أنه يدل مع ذلك على أن كثيرًا من المسؤولين الحكوميّين عندنا ما يزالون، إذا أحسنّا الظن بهم، في حاجة إلى توعية وتَبصِرة بقضايا كثيرة تتعلّق بموضوع اللغة الوطنية الرسمية على الخصوص وأهميتها ووظائفها، ومفهوم التعدّدية اللغوية والتناوب اللغوي كما يجب أن يكون ويُطبَّق، ومفهوم لغة العلم … الخ. ولن يكون بوسعنا الوقوف عند هذه النقط وغيرها. لكن قارئ تصريح الوزير يمكنه أن يفهم أنه مجرد خطاب ديماغوجي بامتياز يحمل الكثير من المغالطات التي قد تنطلي على بعض الناس الذين لا يتابعون موضوع النقاش اللغوي بالمغرب منذ سنوات وعقود، ولا يرصدون المواقف ومَوْجات الصراع التي خاضتها القوى الوطنية الحية منذ الاستقلال إلى اليوم، من أجل التنزيل الفعلي والصحيح لمعنى ومفهوم ترسيم اللغة العربية الذي نصَّت عليه كل الدساتير المغربية السابقة منذ من 1962 إلى الدستور الأخير (2011) الذي يُحمِّل الدولة مسؤولية المحافظة عليها وتنميتها وتطويرها.
وليس هنالك مغالطة أكبر من أن يستمرّ المسؤولون الذين تعاقَبوا على الكراسي الحكومية وأغلب وزراء التعليم، في ترداد أسطوانة مشروخة خلاصتُها أن العربية لا تصلح لتدريس العلوم لأنها قبل استعمالها في هذه الوظيفة تحتاج إلى (تهيِئة) و(إصلاح) و(تنمية وتطوير) و(تحديث) مناهجها وإغناء معجمها ومصطلحاتها. هذه مقولات مضى على إطلاقها وقتٌ طويل، واستخدمها كلُّ من له مصلحةٌ في تهميش العربية وإقصائها، وانخدع بها من انخدَع من المغفَّلين أو غير المُبالين، لأن الغاية منها لم تكن هي إصلاح العربية وتطويرها وإنما إبعاد العربية عن مجالات الاستعمال الحيوية وإحلال لغة المحتلين مكانَها. والمحتلون منذ البداية لم يضعوا في مخططهم السيطرة على الأرض فحسب، وإنما السيطرة على العقول والنفوس، وهو الأمر الأهم.
إذا قلنا إن مناهج تدريس العربية مقارنة مع المناهج التي يستعملها غيرُنا في تدريس لغاتهم الحية، متخلِّفة وعتيقة، فهذا أمر صحيح إلى حد ما وإن كان ليس حكمًا عامًا، فهناك مبادرات كثيرة بدأت تعطي ثمارَها من خلال عدد من التجارب في العالَم العربي. والمطالبة بتحديث هذه المناهج وتطويرها ما فتئنا نطالب به في كل ساعة وحين. ولكن تطوير كيفية تدريس العربية من أجل تيسير تعلّمها وفهمها واستعمالها ونشرها والتمكّن منها شيءٌ. واستعمال العربية أداةً لتدريس المواد العلمية ومختلف المعارف شيء آخر. فمن المغالطات خلط هذا بذاك. لا تقولوا إن ضعف مناهج تعليم العربية هو السبب في عدم صلاحية هذه اللغة لتدريس العلوم، فهناك ألف حجة وحجة نستطيع تقديمها لكم لإثبات العكس، والبرهنة على أن العربية كانت وظلت وما زالت لغة العلم بامتياز، إذا كنتم من ذوي النوايا الصالحة والرغبة الصادقة في البحث عن الحقيقة وخدمة لغة وطنكم وأمتكم، لا البحث عن الجدال من أجل الجدال، وعن العبارات التمويهية التي تُستعمَل لاستغفال العقول والضحك على الذُّقون، وأنتم تعملون ليل نهار على الدفع بالمغرب إلى مصير مجهول، وتنفيذ مخطّطات لا تخدم إلا أجندة جهة أجنبية معروفة والطبقةِ المستفيدة من تنفيذ تلك المخططات الرهيبة التي سوف تمسخ شخصية المغرب وتفصله عن تاريخه وحضارته وأمته العربية الإٍسلامية، مقابل تحقيق مطامعها الخاصة على حساب المصلحة العامة.
لقد كتبنا عدة مرات في مقالات وبحوث وكتب منشورة، أن تطوير اللغة العربية وتنميتها وإصلاحها، أمور لا يمكن أن تتمّ إلا بإقحام هذه اللغة في كل المجالات المعرفية تدريجيّا وبشكل مدروس ومخطَّط له بعناية، وفي مقدمتها المعارف المصطلح على تسميتها اليوم ب (العلمية) من هندسة وفلاحة ورياضيات وعلوم تجريبية وطب وصيدلة واقتصاد وتجارة وتسيير المقاولات وغيرها. وهذا لا يتوقف أمرُه على تطوير مناهج تدريس اللغة لأن لغة العلوم كالرياضيات والهندسة والفيزياء وغيرها لغة بسيطة جدّا لا تحتاج إلى أساليب تعبيرية ومُحسّنات بلاغية وصور شعرية معقدة. وعدد مصطلحاتها محدود يتعلّمه الدارس بالحفظ والاستخدام التدريجيّين في مدة قليلة، وليست كلغة الإبداع الفني والأدب والإنشاء والفكر والفلسفة وأمور من هذا النحو. وأما اللغة الوظيفية المستعملة في المِهَن والحِرَف اليدوية والتدريب على الآلات وكيفية استخدامها فهي أبسط لغة يمكن للإنسان أن يتعلمها من غير مجهود كبير.
وإذا ظلت لغتُنا مُبعَدة بقصد أو غير قصد، عن هذه المجالات الاستعمالية الحيوية، فلا يمكن أن ننتظر منها أن تنمو أو تزدهر. وإنما اللجوءُ إلى سياسة الإقصاء هو الذي سيؤدي بها إلى التهميش والضعف والانكماش لا محالة، وفي أحسن الأحوال سوف يجعلها مقصورة الاستعمال على أمور الدين والشعر والأدب والعلوم الشرعية. وستفتَح الأبواب على كل مصاريعها لتعميق فرنَسَة المجتمع وتحويله شيئًا فشيئًا إلى مستعمَرة فرنسية ليس لها من السيادة إلا الاسم. لإن اللغة رمز من أهم رموز السيادة والاستقلال، وترجمة هذا المعنى إلى حقائق ملموسة على أرض الواقع بأفعال ومنجَزات هو المطلوب في الوقت الراهن.