د. الودغيري عن وفاة عبد الكريم غلاب رحمه الله: “مات قرير العين”
هوية بريس – د. عبد العلي الودغيري
مات قريرَ العين:
أفاقَ المغربُ هذا الصباح على موت الرجل الوطني الكبير صاحب المواقف القوية المؤثِّرة والمبادئ الثابتة الراسخة، والكاتب الأديب المُبدِع، وعميد الصحافة المغربية عن جَدارة واقتدار، أستاذنا وأستاذ الأساتذة في الوطنية الصادقة، والكلمة المسؤولة، والأفكار البانية التي ساهَمت في تكوين جيلٍ كامِلٍ وتنشئته على الإخلاص للقِيَم العليا والتضحية من أجل ما يؤمن به ويدعو إليه.
ماتَ عبد الكريم غلاب، ففقدنا بموته قلَماً فَيّاضاً مُلتَزِماً بقضايا وطنه وأمّته العربية الإسلامية، ومُنَظِّراً سياسياً مُحنَّكاً، ورائداً من روّاد الثقافة والفكر وأدب القصة والرواية والمقالة في المغرب الحديث. درَسنا أدَبَه ودَرَّسناهُ، وارتبَط اسمُه بالصحافة والكتابة في كل فنون القول منذ عرَفناه.
نحن من الجيل الذي فتحَ عَينيه، على قراءة افتتاحياته اليومية أو شبه اليومية التي دَاَبَ على كتابتها لجريدة (العلَم) أكثرَ من أربعين عاماً. كنتُ ألاحظ، منذ أدمَنتُ قراءةَ هذه الجريدة الغرّاء، أن المغرب كلّه -أقصد مغرب المثقفين والسياسيّين- قد تعوَّد أن لا يشرب قهوةَ صباحه كل يوم إلا وافتتاحيةُ غلاّب بين يديه. كان ما يَكتبه نوعاً من التوجيه الفكري والوطني لقراء صحيفته التي اًصبح مديرَها منذ سنة 1960م، وقد كانت في أوج عَطائها وشعبيتها وتأُثيرها، حتى أصبح الناس -فيما أعي جيّداً- يُطلقون اسمَ (العَلَم) على كلِّ جريدة يومية مهما كان اسمُها ولونُها حتى ولو كانت بغير العربية.
لم يكن العملُ السياسي عند غلاب وجِيله بعيداً عن العمل الثقافي، فكلٌّ منهما يصبُّ في الآخر. الفكر والثقافة يُحرِّكان السياسةَ ويَدفعان إليها ويُحرِّضان عليها ويُوجِّهانها ويؤسِّسان مشروعَها. والسياسةُ تُعطي للفكر معنىً وجوهراً، وللثقافة تجسيداً مَيدانياً في عالَم الواقع، فتُنزلها من السماء إلى الأرض. من أجل ذلك صِرتَ لا تقرأ عملاً من أعمال غلاب الإبداعية دون أن تجد نفسَك في قلب حَدَث سياسي أو وطني.
احتَكَكتُ بالرجل كثيراً، احتكاكَ التلميذ بالأستاذ، فعرفتُ صلابةَ عُوده، وصَفاءَ مَعدِنه، ومصدرَ قوَّته. وكنتُ دائماً -وما أزال- مُعجَباً بسلاسة لغته وقدرته العجيبة على امتلاك ناصية القَلَم حين يكتُب، وتناسُق الأفكار وتدفُّق العبارات حين يرتجل ويُحاضِر أو يَخطب. فاليوم تَبكيه لغةُ الضاد ما شاءَ لها البُكاء، وقد كان ظَهرَها وظهيرَها ولسانَها ووَعيَها وضميرَها الحيَّ وقلبَها النابِض.
رجلٌ من نَسْجٍ فريد، جمَع خِصال جِيله الذي كان توَّاقاً لكل شيء جميلٍ يحلُمُ به أبناءُ هذا الوطن من وحدة وحرية وديموقراطية وعدالة اجتماعية وتقدّم وازدهار. فاليوم يَبكيه الوطنُ كلُّه، وتفتقده الأمّةُ بكلّ همومها وأوجاعها. وعزاؤُنا فيه أنه ماتَ راضياً مُطمئِناً، أدّى واجبَه الإنساني والوطني والسياسي والثقافي والاجتماعي بكل وفاء وتَفانٍ وإخلاص… ماتَ كما يموتُ العاملون الأوفياءُ المخلصون…
ماتَ قريرَ العين.
فلندع له جميعاً بالرحمة والمغفرة وجناتِ الرّضوان ، إنه كان من عباده
الصالحين.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.