د.الودغيري يكتب بعد مسيرة الأعلام الصهيونية: ماذا بعد فاجعة الفواجع؟
هوية بريس – د.عبد العلي الودغيري
في البداية كان الصراع على فلسطين بكامل أرضها وسمائها، برّها وبحرها، سُهولها وجبالها، أُناسِها وأنسامها. ثم تقلَّص الصراع ليدور حول ما تبقَّى من أطراف رُقعتها بعد 48، ثم تقلَّص ثانيةً الى ما بقي من بقايا أشلائها بعد 67، ثم تقلَّص وتقلَّص في دوائر بعضُها أصغر من بعض، إلى أن أصبحت دائرةُ الصراع لا تتجاوز أسوار قُدسها وبَلدتها القديمة. ثم تكسَّرت كلُّ الأبواب والأسوار. والآن يدور الصراع في أقدس مكان تحت قبة أقصاها، داخل باحاتِ مسجدها، وقاعات مُصَلاَّها، وحول آخر مِحراب من محاريبها… ثم ماذا بعد ذلك؟ وهل بقي شيءٌ اسمه: ʺما بعد ذلكʺ؟
كان الصراع على الكلّ، ثم صار على الجزء، ثم على جُزء الجزء، وفُتاتِ الفُتات. سلسلة طويلة من التخلّي والتراجع والخِذلان. صُور متلاحقة من التعثُّر والسقوط ولُهاث الخائرين الفاتِرين. ما نوعُ البُكاء الذي يُجدي بعد تمزّق الحبال، وانهيار العزائم، وانقطاع الأنفاس، وازدحام المسلمين على أبواب اليأس؟ ضَعُف الطالب وعزَّ المطلوبُ. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بعد هذه اللّواعِج والفواجع التي لم تكن لتحرِّك أيّ ساكِن، لم يبق لإسرائيل ما تطلبه داخل أرض فلسطين. فكلّ الصيد صار في جوف الفَرا. إنما الصراع بعد اليوم، حول الباقي من أشلاء فلسطين خارج حدودها، تلك القابعة في سُويداء قلوبنا والمشاعر المكبوتة في صدور شعوبنا. ساحةُ الحرب التي أصبحت إسرائيل تراهن على الانتصار فيها مستقبلاً، هي خرائط دولنا وقبائلنا ومَرابط خيولنا، أينما كُنّا وحيثُما صِرنا. هي أجسادنا وأرواحُنا نحن المتعاطفين مع فلسطين، كيف تغزوها وتحتلّها شِبرًا شِبرًا، وتمزّقُها إرْبًا إِرْبًا، وتُشعل النيران في هَشيمها حتى يصير رمادُها أكوامًا وأكداسًا.
قبائلُنا العربية فقدت كل خيولها وشُجْعانها وفُرسانها، ولم تعد تملك من القوة إلا قوة التطبيع مع هذا السُّمّ الذي يسري في أجسامها، وهي تتنافس على تجرّع كؤوسه بشهوة وتلَذُّذ وʺشجاعةʺ، وتحرّض عليه وتدعو الآخرين إلى الاحتفاء به والاحتساء منه، حتى تكون المِيتةُ مِيتةً جماعيّةً غيرَ مأسوف عليها.
التطبيع ʺشجاعةʺ!! يا لها من بلاغة!! بل،يا لها من بلاهة!! حتى البلاغة العربية ضَلّت طريقَها، والاستعاراتُ تكسَّرت أجنحتُها وضاقت خيالاتها، وعجزَتْ عن تصوّر قوسٍ واحد من أقواس النصر القُزَحية… يا لها من شجاعة مشلولة، لا قدرة لها على إمساك نَصْلٍ أو إطلاقَ عِيارٍ. عجزَت عن تحريك أيِّ شيء إلا كأس الانتحار الجماعي!!