د. الودغيري يكتب: لغة العقود والمغالطات
هوية بريس – د. عبد العلي الودغيري
مثالٌ بسيط، من بين عشرات الأمثلة والأدلة والشواهد الأخرى التي تثبت تهافت خطاب الحزب الفرنكفوني وحلفائه في المغرب وبطلان كلّ ما يأتون به من حجج مزيَّفة وأراجيف ملفَّقة يحتالون بها لمنع استعمال العربية في كل المجالات الحيوية التي من حقها أن توجد فيها باعتبارها اللغة الوطنية الأولى، نأخذه من واقع تحرير العقود بكافة أنواعها بين الأفراد والشركات والمؤسسات العاملة داخل البلاد بالفرنسية وحدها، ولا يكاد يُستثنَى منها إلا العقود المتعلقة بالأحوال الشخصية والأمور الشرعية من زواج وطلاق وتقسيم الميراث وهبة، ونحو ذلك. فهذا النوع من العقود هو وحده إلا في حالات قليلة، يُسنَد إلى الموثقين التقليديّن وهم (العُدول) الذين يوثقونه بالعربية. أما بقية العقود الشخصية والإدارية والتجارية والمعاملات المختلفة، فيسند تحريرُها إلى الموثِّقين العصريّين (les notaires) الذين لا يستعملون أيَّ حرف من العربية حتى في كتابة الأسماء الشخصية للمتعاقدين التي كثيرا ما تُشوَّه ويُحرَّف نطقُها عند كتابتها بحروف لاتينية كما هو معلوم.
والسؤال المكرَّر الذي يطرحه المواطن العادي كل مرة وجد نفسه فيها مضطرًّا لتحرير عقد من عقوده الرسمية عند موثق عصري، هو: ما الداعي إلى كتابة هذه العقود وتحريرها بالفرنسية حتى في أبسط الحالات من البيع والشراء والكراء والرَّهن ونحوها، ولاسيما إذا كان كل من المتعاقدين مغربيّا لا أجنبيّا، وأن القضاء الذي توثَّق لأجله العقود معرَّب في المغرب منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، والمحاكم تُلزِم المُتقاضين قانونيّا بترجمة عقودهم إلى العربية إن كانت محرَّرة بغيرها؟ هل المسألة هنا أيضًا راجعة لكون إبرام العقود يحتاج إلى مصطلحات علمية لا تتوفر في اللغة القانونية العربية، والحال أن كل أنواع العقود والالتزامات بدون استثناء كانت قبل الحماية الفرنسية ودخول الاستعمار (حوالي أربعة عشر قرنا) تُكتب بالعربية لا بغيرها، وأن كليّات الحقوق في المغرب تتوفر منذ الاستقلال على شُعَب معرَّبة في العلوم القانونية بكل فروعها، وبها تَخرَّج آلافُ المُحامين والقضاة والمستشارين القانونيّين ورجال الإدارة والأمن وغيرهم فضلا عن أساتذة القانون بكل تخصّصاته؟ ما السرُّ إذن في إصرار الإدارة المغربية على الإبقاء على هذا التقليد الأعمى الذي لا مبرّر له على الإطلاق وليس له أيُّ سنَد قانوني، سوى التبعية المطلقة للتقاليد التي أرسَتها إدارةُ الماريشال ليوطي؟ ألا تعلم أجهزةُ الدولة حجم المشاكل الاجتماعية والقانونية أيضًا الناجمة عن آثار تحرير العقود الإلزامية بلغة أجنبية داخل جهاز قضائي معرَّب؟ فكم من أشخاص ضاعت حقوقُهم بسبب اضطرارهم لتوقيع عقود بلغة لا يفهمونها، والقضايا التي تثقل كاهل المحاكم بسبب هذا لا تعدّ ولا تحصَى؟ أم المطلوب من جميع المغاربة بدوًا وحضَرًا، صغرًا وكبرًا، نساءً ورجالاً، أن يُتقنوا الفرنسية، حتى يحتاطوا لأنفسهم من الوقوع في الشِّراك والأحابيل التي تنصبُها لهم العقودُ المُفرنَسة؟
قراءة العُقود وفهمها، صارا إذن، من الضرورات التي توجب فرضَ الفرنسية على المغاربة بدءًا من الروضة. وقد كنا ننتظر منذ أن تمَّ تعريبُ القضاء والمحاكم أن تُشفَع تلك الخطوةُ بخطوة أخرى لازمةٌ، وهي الحرص الفعلي على تعريب كافة العقود والالتزامات إلا في حالات التعامل مع شركات وجهات أجنبية ينصُّ على طبيعتها القانون، على أن تكون النسخة الأصلية بالعربية. ولكن يظهر أن ترك هذه الثغرة في قانون تعريب القضاء التي لا ينص على ضرورة تحرير العقود والالتزامات باللغة الوطنية وحدها، كان مقصودًا من أجل خلق ارتباك وتضارب وبَلبلة في أذهان الناس، تدفعهم إلى اللجوء للفرنسية بضرورة حماية مصالحهم، ومن ثمّ تأتي الخطوة المنتظَرة وهي التراجع عن تعريب القضاء وما يرتبط به من مصالح إدارية كثيرة، بحجة هذا التضارب الذي يشكو منه الناس وتذمرُّهم المستمر، تمامًا كما وقع في حقل التعليم الذي تعمَّدوا الوقوف بتعريبه عند مرحلة البكالوريا مما خلق تذمُّرًا لدى أولياء التلاميذ، فاتخذوا ذلك حجة على ضرورة التراجع عن التعريب.
هذه واحدة من المِحَن التي يعانيها المغاربة مع قرار الفرنَسة الجائر المفروض عليهم وعلى أبنائهم وأحفادهم.