د.الودغيري يكتب: مع الصديق الفيزيائي
هوية بريس – د.عبد العلي الودغيري
قضيت أمسية شيّقة في جلسة خاصة مع زميل عالِم مقتدِر متخصص في علوم الفيزياء، له تجربة طويلة في تدريس هذه المادة باللغة الفرنسية بكليتي العلوم والطب بالرباط وغيرهما. ظل الصديق الزميل يحدثني لوقت طويل، في موضوع تطوّر الفيزياء الحديثة منذ عهد نيوتن، ويحاول أن يقنعني بما كان لذلك التطور الحثيث من انعكاسات إيجابية نلمسها في مختلف نواحي الحياة العصرية، وفي كل ما ينعم به الإنسان من اختراعات وآليات وتقنيات. كان يتكلم بتلقائية وانسيابية تامة، وبعربية سليمة نقيّة واضحة لا تعقيد فيها ولا نُتوء ولا كُسور، فوجدتُ نفسي مشدودًا لحديثه العلمي الدقيق المفيد، وخلال ذلك كانت تدور بذهني عدة أفكار، فلم أملك نفسي في نهاية الحديث أن أبادره بهذا السؤال: لماذا يزعم الناسُ، ومنهم بعضُ أساتذة العلوم، ومعهم ثلة من المسؤولين، أن استعمال العربية في تدريس الفيزياء وغيرها من العلوم الحقّة والتجريبية، أمر بعيد المنال، وها قد استمعتُ إليك وأنت تحدثني طيلة هذه الساعات عن أمور دقيقة بمصطلحاتها ورموزها ومعادلاتها، بعربية صحيحة جميلة لم أجد فيها عِوَجًا ولا أَمْتًا؟ ولماذا لم تحاول، أنت وأمثالك من الأساتذة المتخصّصين، أخذ مبادرة التدريس بالعربية؟ جاء جواب الأستاذ الزميل صريحًا وحاسمًا وتلقائيّا: قضية لغة التدريس ما هي إلا خرافة، والقرار فيها سياسي، لا جدال فيه.
لم أجادله في صحة الجواب لأني جد متأكد من صحة ما قال، ولكني أضفت معلِّقًا، وكأني أحاول إيجاد مخرج من هذا الطريق المسدود، فقلت: لو كان بيدي سلطة على الإعلام المغربي، لوقَّعتُ معك في الحين عقدًا طويل الأمد من أجل تقديم سلسلة متواصلة من الحلقات العلمية التثقيفية لتبسيط علم الفيزياء وما يتصل به ويتفرَّع عنه ويتداخل معه من علوم واختراعات تكاد تشمل كل مجالات الحياة، وتعميم فائدة ذلك على الجمهور الواسع من المثقفين والطلاب وعامة الناس. فقد زادني حديثُك الشيّق المستفيض اقتناعًا بأن تبسيط العلوم وتبليغ عُصارتها، لهضمها والانتفاع بها، إلى الجمهور الواسع من الناس والمتعلّمين منهم خاصة، لا يمكن أن ينجح إلا باستعمال لغتنا المشتركة التي يسهل على الجميع فهمُها وتملُّكُها. وهذا هو الطريق المختصر والواضح لتعميم التعليم وخلق مجتمع المعرفة، والمسلك الضروري للتنمية الشاملة، بأقصى سرعة وأقل تكلفة.
ابتسم صاحبي وقد أدرك أن مثل هذه الأمنية على بساطتها، لن تتحقّق، فاستدركتُ: دعك من هذا، وخذ مني فكرة بسيطة أراك أقدر الناس على تجسيدها، وهي أن تبادر إلى إنشاء قناة تواصلية خاصة بك، تبثّ فيها حلقات مركزَّة مخصَّصة لمثل هذه الفوائد الفيزيائية المبسَّطة تبلّغها بلغتك العربية السليمة إلى الجمهور العريض من المشاهدين المتعطِّشين لمعرفة الكثير من المسائل العلمية التي يُحرَمون منها بسبب حاجز اللغة الأجنبية المفروض عليهم. وفي ذلك فائدة أيضًا لطلاب العلم في المعاهد والجامعات الذين يجدون صعوبة في هضم هذه المادة للسبب نفسه.
اقتراحي هذا موجَّه كذلك، لكل الأساتذة والعلماء الذين يلمسون في أنفسهم القدرة على استعمال العربية في تبسيط أي فرع من المعارف والعلوم، وتفهيمه وتبليغه إلى أوسع جمهور ممكن، وذلك حتى نسهم جميعًا في تسفيه الخرافة التي تزعم أن العربية غير قادرة على استيعاب كل المعارف والمهارات مهما بلغت دقتُها وتفريعاتها ومصطلحاتها، وفضح كل منطق متهافت يحاول ترويج هذه الخرافة في مجتمع متعوّد على تصديق المشعوذِين والدجّالين. وإذا كان الإعلام الرسمي قد تخلَّى عن وظيفته في هذه الناحية، فلنكن نحن الإعلام الثقافي البديل.