د.بلعمري*: الإجرام يحدث نتيجة تغلب الدوافع الإجرامية على الدوافع الضبطية
حاوره: مصطفى الحسناوي
- إلى ماذا ترجعون تزايد ظاهرة الإجرام في المغرب؟
ظاهرة الإجرام بالوسط الحضري المغربي، أصبحت اليوم من الظواهر الاجتماعية المتنامية في السنوات الأخيرة بفعل التحولات السريعة التي تعرفها البنيات الاجتماعية، نتيجة للدينامية المجتمعية الحديثة سيما في ظل ظاهرة العولمة والتي ضاعفت من نفوذ وسلطة المتعاطي للجريمة والإجرام، وغيرت من صورتنا وتمثلنا حول الظاهرة الإجرامية، بالنظر لكونها أصبحت لها أشكال وأنماط عديدة فاقت وتجاوزت، تلك الصور التقليدية منها.
كما تحولت اتجاهات الإجرام من النزوع والاتجاه الفردي، إلى النزوع نحو الطابع الجماعي للإجرام، التي تقوم على أساس التحالف بين العديد من المجموعات والعناصر الإجرامية، على مستوى الفكر والتنسيق والتنفيذ وتحديد الأهداف، بفعل استعمال بعض الأساليب والتقنيات الحديثة كالغاز المسيل للدموع أثناء القيام بعمليات الاعتداء باستخدام سكين من الحجم الكبير، وذلك بهدف إحداث نوع من الرعب والهلع والذعر بالنسبة للضحية كي لا تبدي أية مقاومة، طبعا باستعمال وسيلة نقل متطورة في الغالب دراجة نارية فائقة السرعة، أو باستعمال سيارات للكراء ويطلق على هذا النوع من السرقة اسم “السرقة بالخطف” تستعمل فيها القوة البدنية والخفة والتقنية والسرعة.
- ما هي في نظركم الأسباب والعوامل التي تجعل شخصا ما مجرما؟
هنالك محددات خاصة مرتبطة بالفرد، ومحددات عامة مرتبطة بالمجتمع، فالبيئة غير الملائمة التي ينشأ فيها الفرد بالغة التأثير في تنشئته الاجتماعية، فمثلا المناخ الأسري غير السوي والمضطرب يفقد الفرد منذ نعومة أظافره معنى التربية والتهذيب التي بالإمكان أن ترشده إلى السلوك المجتمعي السوي.
ذلك أن الأسرة المفككة منصرفة عن الإشراف والتوجيه والرعاية اللازمة تجاه أفرادها، مما يجعل الأبناء بدون رعاية واهتمام كافيين، وبالتالي تسيطر عليهم نزعة اللامبالاة والرغبة في تقليد الأبوين في سلوكهم غير السوي، باعتبارهما المثل والقدوة، والواقع أن مسرح الحياة الاجتماعية يتطور وينتظم وفق قانون التقليد الذي يبني على فكرة محورية مفادها أن كل فرد يتصرف في المجتمع وفقا لمجموعة من العادات والأعراف والقيم والمعايير التي يقبلها الوسط الذي يعيش فيه، والتي تؤثر في تحديد معالم شخصيته وفي توجيه سلوكه، عبر نقل مجموعة من التقاليد الإجرامية، من خلال ميكانيزم الاتصال الشخصي المباشر بالمجموعات الإجرامية، سيما وأن هذه التقاليد المتعلقة بالجريمة تنمو في المناطق والأماكن التي ترتفع بها معدلات الفقر وتفشل وتنهار داخلها الضوابط الاجتماعية، عبر آلية الانتقال الثقافي لهذه الأعراف والأنماط والتقاليد الإجرامية عبر سيرورة التواصل اللفظي، باعتبار أن للمحيط مجموعة من الخصوصيات والمميزات الثقافية؛ سيما وإن انضاف لها عامل الهدر المبكر من المدرسة باعتبار أن للتعليم قوة مانعة لارتكاب الجرائم.
إذ يقوم بدور وقائي يحد من تأثير العوامل الإجرامية الأخرى على الفرد، ومن ثم يكون من شأن التعليم أن يقود صاحبه في الغالب ويصرفه عن أنماط السلوك غير المشروع، بالنظر لأثره الوقائي بما يغرسه في نفوس المتعلمين من قيم اجتماعية من شأنها أن تقيه من براثين الإجرام بحيث -في هذا الإطار- يمكن اعتبار المجتمع المدرسي بمثابة الآلية الوقائية للفرد من “الأمراض” والشوائب المجتمعية التي يمكن أن تصيب الفرد والمجتمع، فهي توفر وتخلق للفرد نوعا من المناعة والتوازن وتسهل عليه عملية الاندماج والترقي داخل المجتمع عن طريق تفاعل النظم الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية ضمن المنظومة العامة وفق مبدأ التنسيق من أجل المحافظة على أمن وسلامة المجتمع وتطوره، بحيث يقع التعليم في جوهر وصلب العملية التربوية، فالمؤسسة التعليمية مؤسسة تربوية توفر العلم والمعرفة وتهيئ المناخ المناسب لتلقي المعايير والقيم الاجتماعية والتي تشكل في مجموعها حضارة المجتمع وتاريخها وثقافتها.
محدد بنيوي وأساسي أخر مرتبط بالإقبال الاجتماعي على تناول وتعاطي المخدرات والإدمان عليها بين جميع الفئات والطبقات الاجتماعية وخصوصا لدى الشباب، إذ أضحى إحدى أهم وأبرز المشكلات الاجتماعية، لما لها من تبعات صحية سلبية على الفرد والمجتمع، سواء من الناحية الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، فهي تشكل تهديدا حقيقيا يجعل الفرد المدمن في الغالب فردا غير سوي، لأنه يصير غير قادر على تحمل المسؤوليات داخل الحياة المجتمعية ومجردا من القدرة على التحكم في أعصابه، ومتذبذبا في مواقفه، ناهيك عن التحلي ببعض المميزات كاللامبالاة وعدم الاكتراث بمشاعر الغير والتسرع وكثرة التردد، والشعور بنوع من الإحباط والغربة، وعدم القدرة على الإنتاج والخلق والابتكار والمساهمة الفعالة والإيجابية في الدورة الاقتصادية داخل المجتمع.
ما يجعل الفرد المدمن في حالة دورية مزمنة تلحق الضرر بالفرد والمجتمع، نتيجة لتكرار استعمال العقار سواء الطبيعي أو المصنع وبرغبة قهرية أو ملحة تدفع المدمن للحصول على العقار والاستمرار في تعاطيه وبأي وسيلة مع زيادة في الجرعة، لدرجة الاعتماد على المواد المخدرة والحاجة إليها بشكل دوري ومنتظم لدرجة يصبح المدمن ضعيفا تحت تأثير سلطتها، لدرجة لا يمكنه الاستغناء عنها، وبمجرد نفاذ مفعولها يلجأ إلى البحث عنها، وتصبح شغله الشاغل لأنه يعتمد عليها بغرض الشعور بالسعادة والانبساط وإذا تطلب الآمر القيام بعمليات إجرامية من أجل توفير المال من أجل اقتناء المادة المخدرة.
- هل من حلول أو نموذج ناجح، يمكن استنساخه أو اقتباسه؟
في اعتقادنا يجب تبني مقاربة مجتمعية تروم إعادة هذا الفرد الخارج عن القانون إلى حظيرة المجتمع، ولهذا أرى أنه من المجدي الاشتغال وبشكل جماعي على ورش إعادة التنشئة لهؤلاء الجانحين باعتبار أن إعادة التنشئة تعد عملية أساسية وجوهرية يتم بمقتضاها نقل التراث الثقافي وخبرات الأجداد وقيمهم وعاداتهم إلى الأحفاد، ومنهم إلى الأجيال القادمة، باعتبارها وسيلة الاتصال الرئيسية ما بين الماضي والحاضر، وآلية للانتقال من الحاضر إلى المستقبل، فعبرها يتم تلقين القيم المجتمعية والمثل العليا للمجتمع، عبر سيرورة من التطبيع الاجتماعي مع الواقع والتجسيد الجيد لأهدافه والانضباط بأوامره ونواهيه وقيمه، باعتبارها آلية من آليات التغير الاجتماعي، تعمل على نقل القيم الجديدة للناشئة.
فمن خلالها يمكننا تحييد الميولات العدوانية والنزوع الطبيعي والفطري نحو العنف وإزالته عند الغالبية العظمى من المتعاطين للإجرام حتى وإن تعلق الأمر بالمجرم بالتسلسل بفعل تلقين عوامل الضبط الداخلي والخارجي، عن طريق آلية التربية التي تلقن للفرد القواعد والمعايير والنظم الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع، عن طريق مؤسسة الأسرة التي تلقن للفرد معايير المجتمع وهو ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية.
فالجماعة البشرية تقوم بعملية الضبط الاجتماعي كمظهر من مظاهر القدرة على الكف أو المنع التي تلعب دورا هاما في تنظيم الوظائف وتعديلها وتعمل على مقاومة الاندفاع والتهور الذي يؤدي إلى الاختلال وعدم الاستقرار، والذي يصدر عن مجموعة من الأحاسيس والتي يرجع مصدرها للتركيبة البيولوجية والحيوية للإنسان.
فبعض المجرمين المتأصلين أو الذين تطغى عليهم الميولات الإجرامية القهرية يفتقدون لما يسمى بعوامل المقاومة وعوامل الضبط الداخلي للميولات والنزوعات العدوانية الفطرية، ولا يستجيبون لعوامل الضبط الخارجي المتجسدة في سلطة القوانين والعقوبات وردود الفعل الاجتماعية، بفعل غلبة عوامل شخصية أخرى، لكونهم لا يأبهون بمصير الآخرين، ولا يعيرون أهمية للأحكام القيمية والأخلاقية، لكون أصحاب الميول القهرية القبلية، يتوجهون للانتقال للفعل في كل موقف إجرامي يعترضهم، وهذه أحد أشكال الاضطراب في شخصية المجرم.
وهذا التفسير يشكل أساس النظريات التي قامت حول فكرة الطبيعة المضادة للمجتمع بالنسبة للمجرم، وهذا التصور للسيكوباتية له تاريخ طويل من الاهتمام، ولكنه يشير وبوجه عام إلى الأفراد الذين يقومون ببعض الأنشطة الإجرامية المتكررة، وحديثا يتم التركيز على بعض المتغيرات التي تجعل من مثل هؤلاء الأفراد يدخلون في صراع مستمر مع المجتمع نظرا لوجود خلل في عملية التنشئة الاجتماعية، ما يجعلهم غير قادرين على التعلم من خبراتهم السابقة، ولا يشعرون بالذنب أو تأنيب الضمير، ما يجعلهم خارج نطاق الانتماء لقيم الأفراد والجماعات.
فالدافع الذي يحرك ويدفع الفرد للانتقال للفعل موجود داخل الفرد نفسه وليس خارجه، وهو ما يسمى بالعوامل الداخلية والتي تحصل في الأساس نتيجة لعلاقة سلبية بين الدوافع والميولات الإجرامية لدى الأفراد المتأصلين وبين الدوافع الكابحة والضبط الفردي والاجتماعي، بمعنى الإجرام يحدث نتيجة لتغلب الدوافع والميولات الإجرامية على الدوافع الضبطية الفردية والجماعية.
فالميولات والنزوعات الإجرامية القهرية هي من تدفع إلى ارتكاب الأفعال الإجرامية سيما وإن توفرت أمام المتعاطي للجريمة الفرصة الإجرامية المتمثلة بالانفراد بالضحية في مكان غير آهل بالسكان، فالاعتداء يحدث عندما يغيب الضمير أو الوعي أو عند تعثر القيم والمعايير، وكلها عوامل داخلية مرتبطة بالدرجة الأولى بالفرد نفسه، ومحاطة بالظروف أو العوامل الخارجية التي تؤطرها وتزيد من مفعولها.
خاصة عندما تتداخل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية المرتبطة بالمحيط والبيئة، ما يصبح معه من الصعب على الفرد أن يتراجع عن القيام بالفعل أو الانتقال للفعل الإجرامي، في لحظة غياب أو سقوط أو تأثر القيم والمعايير، فالفرد يصبح حينها غير مدرك بحجم العواقب الناتجة عن الأفعال الإجرامية التي يقوم بها، وهذا يؤدي إلى إبطال أو تغييب الضبط الذاتي، ومفعول الضبط الداخلي ومن هنا أهمية إعادة التنشئة تستمد مشروعيتها من كونها أضحت مسألة ملحة بالنسبة للأجيال الصاعدة داخل المجتمعات المعاصرة، وعلما مستقلا قائما بذاته يهدف إلى تهذيب أسلوب الإنسان وتوجيهه.
فهي آلية موجهة تعتمد مقاربات وأسسا علمية من أجل خلق توازن في سلوك الفرد، بما يتوافق وقيم المجتمع وأهدافه التي يطمح إليها، ومن هنا فالفلسفة العامة للتربية لا تقتصر على الناشئة فقط بل تمتد لتشمل المجتمع برمته، لأن إحدى الوظائف الأساسية للتربية تيسير عملية التكيف الاجتماعي مع البيئة والمحيط، من خلال تلقين الفرد مجموعة من المبادئ العامة التي توارثتها واكتسبتها الأجيال عبر تاريخها الطويل، اعتبارا من كون الفرد يعد ابن البيئة الاجتماعية التي يعيش داخلها، يستفيد من تراث وخبرات أسلافه وأجداده وحصيلة تجاربهم المستمدة من تفاعله مع البيئة المادية، والقائمة على أساس التعاون فيما بين الأفراد في إطار المؤسسات التي ينتمون إليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الدكتور عادل بلعمري: باحث في سوسيولوجيا الإجرام.