د.بنكيران: مخاض مدونة الأسرة وانقلاب الحداثيين
هوية بريس – د.رشيد بنكيران
تعرف الساحة الفكرية والسياسية في المغرب -كما هو الواقع في جل البلاد الإسلامية العربية- جدالا كبيرا وحادا بين تيارين؛ تيار ذي مرجعية دينية إسلامية تمثل الغالبية العظمى للشعب المغربي وتيار ذي مرجعية ليبرالية لادينية علمانية تمثل أقلية مدعومة، يرمز إليه بالصراع بين الإسلاميين والحداثيين.
من مجالات هذا الجدال الحاد أو الصراع بين الإسلاميين والحداثيين مجال الأسرة، وقد اشتد الصراع فيه على أشده منذ أن أعطى ملك البلاد أوامره بتشكيل لجنة تسهر على مدونة الأسرة يكون من أهدافها الاستماع إلى آراء مكونات المجتمع المغربي والهيئات الرسمية وغير الرسمية بغية الوقوف على الخلل في المواد القانونية للمدونة وإصلاح ما ينبغي إصلاحه فيها، إلا أنه إصلاح #مؤطر_بحدود “لا تحليل للحرام ولا تحريم للحلال ولا تعدّي لقطعيات القرآن”، هذا ما نص عليه الخطاب الملكي.
حدود الإصلاح المنشود أو لنسميه الإطار الملكي المعلن (لا تحليل للحرام ولا تحريم للحلال ولا تعدّي لقطعيات القرآن) لم يشكل أساسا مرجعيا لدى الحداثيين، ينطلقون منه ويعودون إليه كما تقتضي قواعد السياسة، بل قاموا بانقلاب على الإطار الملكي ودعوا إلى ثورة حداثية جدرية، يشهد لذلك تصريحات كبرائهم، وكذلك المطالب التي قدمتها على الأقل شخصيتان حداثيتان تترأسان مؤسستين رسميتين؛ مؤسسة وزارة العدل الممثلة في وزيرها عبد اللطيف وهبي، ومؤسسة حقوق الإنسان الممثلة في رئيسة مجلسه آمنة بوعياش. من هذه المطالب الانقلابية ما يأتي:
– المساواة في الإرث بين الذكر والانثى؛
– إلغاء التعصيب من منظومة الإرث المقررة؛
– تقسيم الأموال المكتسبة في فترة الزوج عند وقوع الطلاق.
– حرمان الأب من ولايته الشرعية على أولاده وإعطاؤها للأم الحاضنة في حالة الطلاق.
– إلغاء طلاق الخلع بتاتا؛
– رفع تجريم الزنا والشذوذ الجنسي أو ما يصطلح عليه عند الحداثيين بالعلاقات الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج؛
– الاعتراف الشرعي أو القانوني بالبنوة البيولوجية المترتبة عن علاقة زنا؛
– إباحة الإجهاض مطلقا دون أي قيد أو شرط؛
– إلغاء الاستثناء في سن الزواج للأنثى التي عمرها أقل من 18 سنة، والذي كان تحت إشراف القاضي وحكمته؛
– منع تعديد الزوجات مطلقا. وغيرها من الشطحات الحداثية.
من الواضح جدا أن معظم هذه المطالب تتضمن ما يمكن أن نصفه دون ارتياب أنه بين تحليل ما حرمه الله، أو تحريم ما أحله الله، أو تجاوز سافر لقطعيات القرآن الكريم، وهي بمثابة انقلاب على المرجعية الملكية المؤطرة لمناحي التعديل المرجوة في مدونة الأسرة المرتقبة.
كما أنها مطالب في حقيقتها وبأدنى تأمل، تعكس المرجعية الايديولوجية التي ينطلق منها الحداثيون المغاربة، فليس من الصدفة في شيء أن توافق المطالب الحداثية المرجعية الغربية؛ فالحداثيون المغاربة يمتاحون من المرجعية الغربية ويتبعونها ثقافتها وهرطقاتها نحو القذة بالقذة وهذا ليس خاف على أحد، ومطالبهم المقدمة ما هي إلا قوانين معمول بها في البلدان الغربية أصحاب نظرية الحقوق الكونية المزعومة، التي لا ترى لله جل جلاله أي حق في تأطير المجتمعات البشرية ولا ترى لأي شريعة سماوية سلطانا على الإنسان.
اليوم، أمام هذه المطالب الانقلابية، لم يعد بالإمكان أن نتحدث عن أنصاف الحلول أو عن التلفيق والترقيع الفقهي أو الاستعانة بالمذاهب الفقهية خارج المذهب المالكي للبحث عن تواقف ما؛ لأن معظم المطالب الحداثية المقدمة مصادمة للثوابت الدينية المجمع عليها في الإسلام، وليس فقط في المذهب المالكي، فلا يمكن أن نتصور بقاء الإسلام وبقاء القرآن إذا سوينا في الإرث مثلا بين الذكر والأنثى أو ألغينا التعصيب، ولا يمكن أن نتحدث عن بقاء الإسلام وبقاء القرآن إذا ألغينا مطلقا تعديد الزوجات، ولا يمكن أن يصح إسلام وقرآن إذا أبحنا الزنا، وغيرها من المسائل التي غير قابلة للمساس بها ولا للتغيير، لأن تغييرها تحريف للدين وتحريف للقرآن، وتحريف القرآن كفر بالله وبالإسلام، والمغاربة مسلمون لا يرضون بالكفر، ولا يعتقدون الطاعة إلا في المعروف.
للأسف الشديد، أظهرت المطالب الانقلابية أن الحدثيين المغاربة -ولأجل التماهي مع الثقافة الغربية والتماهي معها والوفاء لنظرتها للحياة ومفهوم الأسرة- لا يكترثون بالتصدع الذي سيعرفه المجتمع المغربي:
• فلا يمكن مع هذه المطالب أن نتحدث عن مقاربة لعلاج ظاهرة العنوسة والعزوف عن الزواج الذي بدأ يعرف تزايدا مقلقا ويعصف باستقرار حياة الشباب في الحلال؛ لأن الحداثة لا ترى في هذه الظاهرة مشكلا أصلا، والبديل لديها موجود يتمثل في العلاقات الجنسية الرضائية خارج مؤسسة الزواج.
• ولا يمكن مع هذه المطالب التفكير في رفع أو التقليل من ظاهرة أبناء الزنا؛ لأن الزنا وأبنائه في نظر الحداثة مسألة طبيعية، وما تولد عنها يجب الاعتراف بها وقبولها، والتعايش مع الزنا باعتباره من الحريات المقدسة.
• وفي الواجهة الأخرى، سنرى مع هذه المطالب الحداثية الانقلابية أحوالا غير مرضية ستظهر في المجتمع المغربي وتطفو على السطح، كالزواج دون توثيق لأجل التملص من تقسيم الأموال المكتسبة في فترة الزواج إذا وقع الطلاق؛ فمن من الرجال سيقبل هذا الظلم الذي سيحل به باسم القانون، فلا بد من حيلة قانونية للالتفاف على القانون نفسه، ومن الحلول الذي سلكها الرجل الحداثي الغربي عدم توثيق الزواج، وما أيسره من حل.
• وكذلك سنرى ارتفاعا في نسبة تعديد الزوجات باسم الخليلات مراوغة للقانون الحداثي الذي يجرم تعديد الزوجات، ويسمح في الوقت نفسه بتعديد الخليلات، لكن دون أي ضمانات للمرأة الخليلة (التي هي في الحقيقة زوجة)، ودون أي مراعاة لحقوقها التي كفل لها الإسلام، فما أشدها من خسارة على المرأة!؟؟
والأمثلة المذكورة آنفا ليس للحصر، وإنما هي صور -ومنها الكثير- الغرض منها هو التدليل للتصدع الذي سيعرفه المجتمع المغربي جراء قبول المطالب الحداثية لا قدر الله، ومن أراد استقصاء هذه الصور ويعرف مآل الأسرة المغربية بتأطير مدونة حداثية فما عليه إلا أن ينظر إلى واقع الأسر في المجتمع الغربي، فهو النموذج المقتدى به لدى الحداثيين المغاربة.
هذا، ويجدر بي أن أشير أيضا إلى تصدع من نوع آخر سيعرفه المجتمع المغربي لا يقل خطورة عما سبق بيانه، للأسف الشديد لا يكترث له الحداثيون دعاة الفتنة، وهو الشقاق الذي سيقع بين الراعي والرعية المفضي إلى الانشقاق؛ ذلك أن الرعية ترى في ملك البلاد أميرا للمؤمنين بموجب عقد البيعة الذي جاء به الإسلام وقرره القرآن، لكن إذا تعدينا حدود القرآن وقطعياته، وحللنا الحرام وحرمنا الحلال فإن أول عقد سيُنقض هو عقد البيعة الذي يجمع بين الراعي والرعية، فإنما البيعة أبرمت باسم الدين وباسم القرآن، فإذا -لا قدر الله- حُرّف القرآن وانحل، سينحل بانحلاله عقد البيعة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
اليوم، وبسبب شطط الحداثيين وغلوهم، واستعلائهم على ثوابت الوطن واستقوائهم بالخارج، يجب على العلماء الربانيين الرسميين وغير الرسميين، والمؤسسات الدينية الصادقة الرسمية وغير الرسمية أن يؤدوا الأمانة التي أخذه الله عليهم، ويقولوا كلمة الحق، وينخرطوا بقوة مع شرفاء هذا الوطن في الدفاع عن الدين وألا يخافوا في الله لوم لائم.