د.بنكيران: من وحي آية التوحيد

28 نوفمبر 2025 19:39

هوية بريس – د.رشيد بن كيران

قال جل جلاله: ﴿رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِۦ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:65].

تبرز الآية الكريمة سياقا عقديا وتربويا محكما يختصر حقيقة الدين، ويجمع لب العقيدة، ويؤسس لمنهج العبودية على أكمل صورة.

إنها آية حافلة ببيان معاني التوحيد كله: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ثم ما يتفرع عن ذلك من لوازم الانقياد والاستقامة والثبات.

1. توحيد الربوبية.. أصل النظر والاعتبار:

ابتدأت الآية بصفة من أعظم صفات الله سبحانه وتعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾.

فهي شهادة مطلقة على الكون كله بأن كل ما في الوجود إنما قام بربوبيته تعالى: خلْقا وإيجادا، ملكا وتصريفا، تدبيرا وحكمة.
وحين يذكّر الله العبد بهذه الحقيقة، فهو لا يقدّم #معلومة_نظرية، وإنما يضع قدمه على أول منازل التوحيد: الاعتراف الشامل بأن كل ما سوى الله مفتقر إليه، وأنه وحده القيّوم الذي لا تستقيم ذرة في الكون إلا بإقامته لها ورعايته لها؛ فما أعظم هذا الرب جل جلاله.

2. توحيد الألوهية.. غاية الخلق ولب التكليف:

لما تقررت ربوبية الله المطلقة دون أي التباس، انتقل الخطاب الرباني مباشرة إلى مقتضاها: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾،

وكأن الآية تقول: إذا علمت أن رب السماوات والأرض وما بينهما هو المتصرف وحده، فالطريق الوحيد المقبول عقلا وفطرة هو أن تُفردَه بالدعاء والطلب، بالحب والتعظيم، بالخضوع والإنابة، بفعل ما أمر وبترك ما نهى، وإلا كان العبد متناقضا مع فطرته وعقله، ومع شهادته.

وتقديم دلائل الربوبية ثم الأمر بعبادة الواحد الأحد هو المنهج القرآني الدائم؛ إذ لا معنى لعبادة لا تقوم على معرفة الله، ولا قيمة لمعرفـة لا تثمر خضوعا وطاعة له سبحانه.

3. توحيد الأسماء والصفات.. ثمرة اليقين وكمال التنزيه:

ثم جاء الختام بالاستفهام القاطع الدال على الاستنكار والنفي: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾.

أي هل تعرف أحدا يسمى باسمه على الحقيقة؟ هل يوجد شيء يشبهه، ويضاهيه، ويدانيه؟

إنه نفي للشبيه والمثيل والنظير، بل نفي لكل ما يتوهمه عقل أو تتصوره نفس مما ينافي كماله سبحانه.

وبهذا يكون التوحيد قد استوى على أركانه الثلاثة:

– ربوبية لا ينازعه فيها أحد.

– ألوهية لا تُصرف إلا له.

– وأسماء حسنى وصفات علا لا يشاركه فيها مخلوق؛ ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ [الشورى:11].

4. عبادة لا تستقيم إلا بالثبات والصبر:

لم يكتف الحق سبحانه بالأمر بالعبادة، بل قال: ﴿وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾؛ فكأن العبادة بلا صبر كجسد بلا روح. بلا لابد من صبر وزيادة فالطريق طويل، والنفس تتقلب، وصوارف الغفلة كثيرة، وإغراءات الدنيا تفتك بالقلوب والنفوس.

ولذلك جاءت صيغة ﴿وَاصْطَبِرْ﴾ زيادة في المبنى والمعنى لتحمل دلالة المبالغة في الصبر؛ مجاهدة ومثابرة، وتحملا لكل ما يعارض السير إلى الله سبحانه، وكأن العبد يُربّى على أن العبادة #مشروع_عمر، لا لحظة عابرة ولا حماسا قصيرا؛ ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات:56] .

5. المعنى الجامع… التوحيد الذي يصنع الإنسان:

حين يتذوق المؤمن هذه الآية؛ آية التوحيد، يدرك أن صلب التوحيد ليس مجرد تعريفات ذهنية، ولا ألفاظ تقال، بل هو رؤية شاملة للوجود تعيد ترتيب كل شيء في النفس:

من أين أتيت؟ من يدبر أمرك؟ لمن تعمل؟ من ترجو؟ من تخاف؟ على من تتوكل؟ إلى أين ستعود؟

ثم يكتشف أن كل اضطراب في الحياة منشؤه ضعف في واحدة من أركان التوحيد الثلاثة أو جميعها، وأن صفاء القلب وطمأنينته إنما يكون بكمال توحيد الله في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.

◆ هذه الآية ليست كلمة عابرة، بل هي بطاقة تعريف المؤمن:

من عرف ربه حق المعرفة، أفرده بالعبادة، ومن أفرده بالعبادة تحمّل مشاق الطريق، ومن كمل صبره، شهد ربوبية الله وتنزيهه عن الشبيه والمثيل، فعاش توحيدا صافيا يصنع من الإنسان قلبا ثابتا، وروحا مطمئنة، وسيرا مستقيما نحو الله.

إنها آية التوحيد لو استقرت في قلب عبد، لصلحت دنياه وأخراه.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
7°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة