د.بنكيران.. هل ترحم الإمام الذهبي على الرافضة؟

09 أكتوبر 2024 18:11

هوية بريس – د. رشيد بن كيران

♦ في الآونة الأخيرة، انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي ترجمة لشخصية شيعية مبتدعة قام الإمام الذهبي بالترحم عليها في كتابه “سير أعلام النبلاء”. ونص كلامه كما يلي:

“الْعَلامَةُ أَبُو الْحَسَنِ الْحَلَبِيُّ، فَقِيهُ الشِّيعَةِ، وَنَحْوِيُّ حَلَبَ، وَمِنْ كِبَارِ تَلامِذَةِ الشَّيْخِ أَبِي الصَّلاحِ. تَصَدَّرَ لِلإِفَادَةِ، وَلَهُ مُصَنَّفٌ فِي كَشْفِ عُوَارِ الإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَبَدْءِ دَعْوَتِهِمْ، وَأَنَّهَا عَلَى الْمَخَارِيقِ، فَأَخَذَهُ دَاعِي الْقَوْمِ، وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ، فَصَلَبَهُ الْمُسْتَنْصِرُ. فَلَا رَضِيَ اللَّهُ عَمَّنْ قَتَلَهُ، وَأُحْرِقَتْ لِذَلِكَ خِزَانَةُ الْكُتُبِ بِحَلَبَ، وَكَانَ فِيهَا عَشْرَةُ آلافِ مُجَلَّدَةٍ. فَرَحِمَ اللَّهُ هَذَا الْمُبْتَدِعَ الَّذِي ذَبَّ عَنِ الْمِلَّةِ، وَالأَمْرُ لِلَّهِ.” انتهى.

هذا، وقد شارك بعض الأفاضل في ترويج هذه الترجمة، وهدفهم من ذلك -حسب السياق العام- هو القول إنه لما جاز للحافظ الذهبي – وهو من كبار علماء أهل السنة وقد عُرف بالإنصاف في الجرح والتعديل – أن يترحم على مبتدع شيعي، فيجوز لهم، ولأهل السنة عموما، أن يترحموا على شيعة زماننا، وعلى فلان وعلان ممن مات في تداعيات حرب “طوفان الأقصى”.

لكن للأسف، هذا الرأي غير سديد، وعليه ملاحظات، يحتاج إلى وقفة وتأمل؛ فالمسألة ليست بهذه البساطة. وبيان ذلك:

أولاً: بدعة التشيع عند الإمام الذهبي ليست هي بدعة الرفض، والشيعي عنده ليس هو الرافضي، ولكل منهما أحكام تخصه. يقول الإمام الذهبي في “ميزان الاعتدال” عند ترجمة أبان بن تغلب:

“أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته.

وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين…..،

فلقائل -هذا من كلام الذهبي- أن يقول:

كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟

وجوابه -أي جواب الذهبي- أن البدعة على ضربين:

فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق.

فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.

ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة….. ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلا، بل قد يعتقد عليا أفضل منهما”انتهى

من هنا، يتبين أن الذهبي رحمه الله فـرّق بوضوح بين الشيعي الذي يمكن الترحم عليه، وبين الرافضي الذي لا يُترحم عليه. فإذا أراد البعض الاستشهاد بترحم الذهبي على أبي الحسن الحلبي، فعليهم اتباع منهجه الدقيق في التفريق بين البدعة الصغرى والبدعة الكبرى، وبين التشيع المقصود لديه وبين الرفض المقيت.

مثال آخر في بيان منهاج الذهبي من كتابه “سير أعلام النبلاء”:

كان أبو الحسن الدارقطني يخفي تفضيله للخليفة عثمان على الخليفة علي رضي الله عنهما، وخشي أن يكون إخفاء هذا التفضيل وعدم التصريح به وقوعا في نوع من الرفض، فأعلن موقفه من هذه المسألة، فعقب عليه الإمام الذهبي بقوله: [قُلْتُ: لَيْسَ تَفْضِيْلُ عَلِيٍّ بِرَفضٍ، وَلاَ هُوَ ببدعَةٌ، بَلْ قَدْ ذَهبَ إِلَيْهِ خَلقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ، فَكُلٌّ مِنْ عُثْمَانَ وَعلِيٍّ ذُو فضلٍ وَسَابِقَةٍ وَجِهَادٍ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي العِلْمِ وَالجَلاَلَة، وَلعلَّهُمَا فِي الآخِرَةِ مُتسَاويَانِ فِي الدَّرَجَةِ، وَهُمَا مِنْ سَادَةِ الشُّهَدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَلَكِنَّ جُمُهورَ الأُمَّةِ عَلَى تَرَجيْحِ عُثْمَانَ عَلَى الإِمَامِ عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ.

وَالخَطْبُ فِي ذَلِكَ يسيرٌ، وَالأَفضَلُ مِنْهُمَا -بِلاَ شكٍّ- أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، مَنْ خَالفَ فِي ذَا فَهُوَ شِيعِيٌّ جَلدٌ، وَمَنْ أَبغضَ الشَّيْخَيْنِ وَاعتقدَ صِحَّةَ إِمَامَتِهِمَا فَهُوَ رَافضيٌّ مَقِيتٌ، وَمَنْ سَبَّهُمَا وَاعتقدَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِإِمَامَيْ هُدَى فَهُوَ مِنْ غُلاَةِ الرَّافِضَةِ -أَبعدَهُم اللهُ-.] انتهى.

من هنا يظهر جليًا أن الذهبي كان واضحًا في التمييز بين الشيعي الذي يمكن الترحم عليه وبين الرافضي المقيت أو الرافضي الغالي الذي لا يمكن الترحم عليه، بل يدعى عليه بالبعد والحرمان.

وبناءً على ذلك، فإن ترويج ترجمة الشيعي أبي الحسن الحلبي استنادا إلى صنيع الذهبي للترحم على شيعة زماننا إفتئات على الذهبي ومنهاجه، وغفلة عظيمة أو تدليس شنيع نُكبر إخواننا أن يتعمدوا ذلك؛ لأن هؤلاء الذين يراد الترحم عليهم ليسوا شيعة بإصطلاح الذهبي، بل هم عنده بين رافضة مقيتة، وغلاة رافضة. وولاؤهم المطلق للخميني مؤسس دولة إيران الحديثة ظاهر ومنتشر، ويعدونه إمامًا ومرجعًا… وما ذكره الخميني معروف مسطور، وقد كفره غير واحد من أهل العلم المنصفين المعتدلين.

ثانيا: أن الإمام الذهبي ترحم على شخص كان يفضل علياً على أبي بكر وعمر فقط، غير أنه قام بعمل جهادي كبير، إذ فضح انحراف الفرقة الضالة الإسماعيلية وضحى بحياته في سبيل إظهار الحق. فأين مثل هذا الشيعي اليوم!؟ لو وجد، لقبلنا رأسه، وليس فقط نترحم عليه، هذا نقوله مقارنة مع شيعة زماننا من الروافض الغلاة القتلة الذين سفكوا دماء الأبرياء في سوريا، ونصروا المجرم الطاغية المعروف الذي ينتمي إلى الفرقة العلوية النصيرية الضالة، ورفعوا راية الطائفية في قتال أهل السنة الأبرياء في عدة أمكنة.

وأخيرًا، أكرر قائلاً:

نحن اليوم وفي هذا الظرف الخاص، لسنا بحاجة إلى ترويج المغالطات وتمييع المواقف الشرعية، كما أننا لسنا بحاجة إلى إذكاء نار الطائفية، فلن يستفيد من ذلك إلا الصهاينة. بل حاجتنا الآن إلى أن نتحد، ولو مع عدو طائفي بغيض، في محاربة عدو أخطر يسعى لاستئصال القضية الفلسطينية وبالتبع إقصاء الدين الاسلامي على مستوى التأثير في الشأن العام وتدبيره، ويعينه على ذلك جبابرة العالم، والمتخاذلون الأقارب للأسف الشديد.

اللهم نصرك الذي وعدت، فأنت نعم المولى ونعم النصير.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M