مع الأسف يدعي بعض المغالطين أن الإسلام دين يعادي الملل والعقائد الأخرى، ويدعو إلى التعصب، والانتقام من مخالفيه، ويستدلون على هذا بتصنيف الناس إلى مسلمين وغير مسلمين، في إشارة إلى رفض الآخر ورفض التعايش معه وإهانته!!
فأقول: الإسلام دين الرحمة والتسامح والهداية والسلام، ولا يحض على الكراهية والعداء، بل هو دين المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في القضاء وسائر المعاملات، والقرآن والحديث ومواقف الصدر الأول من الصحابة خير دليل على ذلك.
والإحسان إليهم، ومعاملتهم بالعدل، جاءت صريحة في الشريعة الإسلامية، قال تعالى: “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ“.
وأيضا جاءت بجواز التعامل معهم بالبيع والشراء، والقرض، والرهن وغيرها من وجوه المعاملات الشرعية، ولا مانع شرعا من التعامل معهم في المعاملات المالية أو الإجارة وعيادة مريضهم وتعزيتهم عند المصيبة وتهنئتهم عند حدوث نعمة..، وهكذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير“.
وأيضا عيادة النبي صلى الله عليه وسلم للغلام اليهودي، فقد كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمَرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: “أسلم“، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: “أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم”. فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذه من النار” رواه البخاري.
والراجح من أقوال أهل العلم جواز عيادة غير المسلم مطلقاً وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فلما سئل عن قوم مسلمين مجاوري النصارى فهل يجوز للمسلم إذا مرض النصراني أن يعوده؟ فقال: “وأما عيادته فلا بأس بها فإنه قد يكون في ذلك مصلحه لتأليفه على الإسلام” (الفتاوى الكبرى 3/5).
ولابأس أيضا من رقيتهم أو الدعاء لهم بالشفاء، وهو أشبه بتقديم الدواء له، فإن التداوي يكون بالأسباب الكونية كالأشربة والكبسولات الصيدلية كما يكون بالأسباب الشرعية بالدعاء والرقية الجائزة شرعاً، ويدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما نزل هو ومن معه من الصحابة على حي من أحياء العرب فأبوا أن يضيفوهم، ثم لدغ سيد ذلك الحي فالتمسوا العلاج عند الصحابة، فرقى أبو سعيد رضي الله عنه سيد الحي الملدوغ بسورة الفاتحة فشفي، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: “وما يدريك أنها رقية” رواه البخاري، فظاهر الحديث أن الحي كانوا من غير المسلمين.
قال ابن القيم رحمه الله: “فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء، وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء، هذا مع كون المحل غير قابل إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين أو أهل بخل ولؤم فكيف إذا كان المحل قابلا” (مدارج السالكين 1/55).
وأيضا من رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين رعايته لمعابدهم وكنائسهم، ومن محافظته عليها ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حان وقت الصلاة وهو في كنيسة القيامة، فطلب البطريرك من عمر أن يصلي بها، وهمّ أن يفعل ثم اعتذر، ووضح أنه خشي أن يصلي بالكنيسة فيأتي المسلمون بعد ذلك ويأخذونها من النصارى على زعم أنها مسجد لهم، ويقولون: هنا صلى عمر.
ولم تتوقف معاملة المسلمين عند حدّ المحافظة على أموالهم وحقوقهم، بل حرص الإسلام عبر عصوره على القيام بما يحتاج إليه أهل الكتاب وبخاصة الفقراء منهم.
إن مثل هذه المعاملة من المسلمين لغير المسلمين تطلع العالم أجمع على أن الإسلام ربى أتباعه على التسامح، وعلى رعاية حقوق الناس، وعلى الرحمة بجميع البشر مهما اختلفت عقائدهم وأجناسهم، وقد حفظت أجيال المسلمين قيمة هذه الرعاية الإسلامية لحقوق غيرهم؛ لأنهم ما طبقوها إلا استجابة لتعاليم القرآن الكريم، وتوجيهات الرسول العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد طبقها في حياته فوعاها المسلمون جيلا فجيلا، وطبقها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء.
أضف على ذلك شهادات المنصفين من غير المسلمين على سماحة الإسلام في تعامله مع مخالفيه، تؤكد كذب هذا الادعاء، والتاريخ نفسه أكبر شاهد على ذلك.
ورغم كل الافتراءات على نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام والتي تزداد حدتها كلما زاد التعصب الغربي إما نتيجة لأحقاد دفينة أو جهل أعمى قلوب أصحاب هذه النعرات فراحوا يكيلون التهم لنبي الإسلام وشريعته السمحة، تارة في صورة رسوم كاريكاتورية ساخرة، وتارة في أعمال أدبية ساقطة، وثالثة في تصريحات أو مقالات.
مع ذلك تجد على الجانب الآخر فريقا من حكماء الغرب وعقلائه قد سجلوا بأحرف من نور كلمات مضيئة أنصفوا بها نبي الإسلام، وعدوه أعظم العظماء في تاريخ البشرية..
فماذا قالوا؟
أكتفي بنموذجين من نماذج كثيرة: تقول المستشرقة الألمانية الدكتورة “زيجريد هونكة ” في كتابها “شمس الله على الغرب”: “ولقد شاء الله أن يظهر من الأوروبيين من ينادي بالحقيقة ولا يغمط العرب حقهم في أنهم حملوا رسالة عالمية وأدوا خدمة إنسانية للثقافة البشرية قديما وحديثا”.
وهذا الفيلسوف الإنجليزي الشهير “برناردشو” يقول: “إن رجال الدين في القرون الوسطى ونتيجة للجهل أو التعصب قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية، ولكنني اطلعت على أمر هذا الرجل فوجدته أعجوبة فارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم، لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها”، وأضاف “إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد النبي الذي وضع دينه دائما موضع الاحترام والإجلال”.
وأقول ختاما: لقد أقام الإسلام العدل بين عنصري الأمة من المسلمين وغير المسلمين، ومن رسالة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى قاضي القضاة أبي موسى الأشعري قال له: “آس (أي اعدل) بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك (أي ظلمك وجورك)، ولا ييأس ضعيف من عدلك”.
فلا تصح التفرقة بين المتخاصمين حتى لو كان أحدهما غير مسلم.
وهكذا نرى كيف عامل سلفنا أهل الكتاب، وكيف أظهروا سماحة هذا الدين الذي لا يقر العصبية، ولا يرضى الظلم حتى لغير المسلمين، بل يدعو إلى التسامح والعدل معهم، وهذا المنهاج المتسامح للإسلام مع أهل الأديان الأخرى هو سر عظمة الإسلام، وسر ذيوعه وانتشاره في ربوع المعمورة.