د. عبد العلي الودغيري: أَرِنا كيف تُحافِظ على العربية؟
هوية بريس – د. عبد العلي الودغيري
فهمتُ من كلامك أنك لستَ مَعنيّاً بالدفاع عن العربية لأن الدفاع يكون للضعيف والعربية لغةٌ قوية سليمة بدليل أن لها مدارس تعلِّمها في أوروبا وآسيا وغيرها، وأن اللاتينية ماتت والعربية عاشت، وإنما أنت معنيٌّ فقط بالمحافظة على كنوزها وخاصة ما يدخل منها إلى البيوت عن طريق الفضائيات.
الآن وضحت الصورة وعرفنا مجالَ عملك وتخصُّصك الدقيق. لكن أَرنا -باركَ الله فيك- ماذا تعني بحفظِ هذه الكُنوز وكيف تُحافِظُ عليها. هل تقوم بجمعها في أقراص مغناطيسية جديدةِ الصُّنع و«أسطوانات غير مشروخة»، أم بتعليبها في أوعية وقوارير زُجاجية وفَخّارية ومعدنية مع إضافة بعض البَهارات والمواد الحافِظة؟ أم تضعها في ثلاجات تحت درجات جد منخفضة تحافِظ على برودتها وجمودها وتَحجُّرها، أم تَحفِر لها مخازِن ومَطاميرَ (جمع: مَطمور أو مطمورة) تحت الأرض كي تحافظ على رطوبتها وتمنع عنها الشمسَ والهواء؟ أم تَصنَع لها قُمقُماً -كما يُصنَع للكنوز الدفينة- من فولاذٍ ونُحاس مُحكَم الإغلاق تُحبَسُ فيه ولا تخرج منه إلا كما تخرج عفاريتُ سليمان بطلاسِم وطُقوس سِحرية خاصة، فتبقى في خِدرها على وضعها وصِفتها عَفيفةً مَصونةً إلى أن ينقرِض وجودُها على الأرض، وبعد ذلك سيبحث عنها أصحابُ الآثار والتُّحف العتيقة، لأن ثمنها سيرتفع بشكل جنوني؟ أم تدهنُها بحَنوطٍ ممن النوع الممتاز يحفظها من الديدان والتحلُّل على طريقة حفظ المُومياء عند قُدامى المصريّين؟ أم لك وصفةٌ سحريةٌ خاصة، سرُّ من الأسرار الرّبّانية لا تريدنا أن نطلع عليه؟ طريقةٌ عجيبةٌ غريبة في العناية باللغة العربية والحفاظ على كنوزها وثروتها خوفاً عليها من الضياع، تذكِّرني بطريقة السَّجّان الذي يقول لمسجونه: لقد حَبَستُك هنا خوفاً عليك من أعدائك أن يقتلوك إن ظَفِروا بك حيًا.
حامي العربية بهذه الطريقة لا يهمُّه الحصار المفروض على قَلعتها من جيوش الفرنكفونية المُدَجَّجَة بكل أنواع الأسلحة المتطوِّرة، وهي تقتحم عليها دارَها، وتزاحم وجودها إلى أن تطردها شرَّ طَردة، وتُجفِّف منابِعها، وتفترسها افتراساً وحشياً لم يُرَ افتراسٌ مثله من قبل، ولا من واقفٍ على بابها، أو حاملٍ سيفَه ضد غاصِبها، يَنتشلها من أنياب عدوّها ومَخالبه، لأنه غير معنيّ بالدفاع عنها وافتِكاك أَسرها وإنما بحفظ جثّتها ومومياءَها المحنَّطة لا غير. لا يهم مُحافِظَ العربية ما تفرضه الفرنكفونية في المغرب والإنجلوفونية في المشرق من هيمنة وسيطرة، وما تحتله من مواقع تلو المواقع، في التعليم والثقافة والإعلام والاقتصاد والتجارة والفلاحة والصناعة والسياحة والبنوك وتسيير الأعمال وفي كل مظاهر الحياة العامة والخاصة، ولا ما تخسره العربية -مقابل ذلك- من مواقع استراتيجية ذات أهمية قُصوى كتدريس العلوم العصرية التجريبية والبحتة وكل التخصصات المحتاج إليها كالهندسة والطب والصيدلة والتجارة وتسيير المقاولات ومختلف التقنيات في الجامعات والمعاهد العليا، وقد مُنِعَت عنها منعاً كلياً وانتُزِعت منها انتزاعاً. لا يهمه أن تغمر الفرنسية كلَّ مراحل تعليمنا حتى الأوَّليّ منه الذي ظل قبل رؤيتهم «الاستراتيجية» خارجَ قبضتها رسميا وقانونياً في المدرسة العمومية على الأقل، لا يهمه أن يُنزَع الحرفُ العربي من أغلب اللافتات في شارعنا المغربي والعربي، ويحل محله الحرف اللاتيني… لا يهمه إن ظلت العربية على جمودها وركودها، كل هذا وغيره لا يدخل في مهامه واختصاصه.
هل يُقنعنا قولُ المحافِظ على العربية: إن حال العربية بخير وليس في الإمكان أفضل مما كان، تهدئةً للأوضاع، وتسكينًا للنفوس، كما كان يفعل الدروايشُ الذين سخَّرَهم الاستعمارُ للدعاية له وإقناع العامة بأن دخول فرنسا واحتلالها ابتلاءٌ من الله لا مفرَّ منه، وقضاءٌ وقَدَر لا ينبغي إلا التسليمُ بهما والخضوع لهما، وكأن ليس لنا عيونٌ أو وآذان نرى ونسمع بها، ولا عقول نُشغِّلُها، ولا حواسُّ للتمييز بين الظلمة والنور، أو ألسنة لتذوُّق الحلو وتبيُّن اختلافه عن المُرّ؟
وهل العربية -يا سيدي- ينقُصُها التعليبُ والتبريد والتجميد، وإبقاء الوضع على ما هو عليه، أم تحتاج إلى تنمية وتطوير وابتكار طُرُق جديدة ووسائل غير مسبوقة لتعليمها ونشرها نشراً صحيحًا لا عشوائياً وتعميم استعمالها في المجتمع كله، مجتمع الناطقين بها قبل أي مجتمعات أخرى؟ العربية لا يمكن أن تعيش وتستمر وهي موضوعة داخلَ قفَص زجاجي يتفرَّج عليها زوارُ المتاحف ككائن غريب موروث من عهد بائد. وإنما بإعمالها إعمالاً يُحييها ويُنمِّيها ويطوِّرها ويجدّدها ويُيسّر تعلُّمها واستخدامها في كل مجال. وهذا لا يكون إلا بالدفاع عن ضرورة إقحامها في كل المجالات العلمية والتقنية وفي دواليب الحياة الاقتصادية والتجارية. والدفاع لا يكون قوياً إلا بالحُجَّة والحِجاج والإقناع… إذا فعلتَ هذا فأنت تدافع عن العربية وتحافظ عليها في الوقت نفسه. الدفاع والمحافظة بأشكال جديدة وأساليب متطوِّرة ومُبتَكرة وفعّالة ومُقنِعة أمران متلازمان لا يَنفصلان. ولا حاجة للتلاعب بالكلمات.
أنت ترسُم لنا عن واقع العربية لوحةً ورديةً زاهيةَ الألوان. وهل هذا هو واقعُها الحقيقي، أم هو أُمنيةٌ نتمناها وحلمٌ لا نراهُ إلا في المنام؟ علاجُ الداء لا يكون بالسكوت على وضعه في انتظار معجزة من السماء… أما الإحصاءات التي طالبتنا بإجرائها لمعرفة قدر اتساع رقعة العربية وانتشارها، فنحن أعرفُ بها منك، وهي عندي منشورةَّ ومدروسة دراسة تحليلية ضافية في المقالات المتضمَّنة بكتابينا (اللغة العربية في مراحل الضعف) و(لغة الأمة ولغة الأم)، قبل أن تصلك أخبارُها. وقد خرجنا منها بنتائج مهمة نلخصها في أن الاقتصار في تحليل وضع العربية الحالي على الجانب الكَمّي الذي يقول لك إنها لغةٌ تحتل الترتيب الرابع أو الخامس أحياناً بين كبريات اللغات العالمية، وأنها لغة يتكلمها زهاء أربع مئة مليون، ومعتمدة في كل هياكل الأُمم المتحدة… إلى غير ذلك من المُسَكِّنات والمُهدِّئات التي تريح البال وتُعَدِّل المِزاجَ…
أقول: إن الاقتصار على النظر للموضوع من هذه الزاوية وحدها لا يؤدي إلى تحليل كامل دقيقٍ وموضوعي. لأن هناك شطراً من الحقيقة، وهو المهم، يظل مغيَّباً وراء هذه الصورة الزاهية التي نجدها في القراءة السطحية للأرقام. وهذا الشطر المخفي الذي يُقدم الوجه الآخر للعُملة هو الذي يعتمد المعايير الكيفية التي تُستعمل في معرفة الوزن الحقيقي للغات: مكانة اللغة عند أهلها ومدى اعتزازهم بها، مكانتُها في المجتمع كله، وضعُها في التعليم بكل مراحله وتخصصاته، مقدار مساهمتها في إنتاج المعرفة العصرية المحتاج إليها بكل أشكالها، مكانتها في الاقتصاد المحلي والعالمي والتبادل التجاري المحلي والدولي، وضعها في البنوك والشركات، في الثقافة والإعلام… فضلاً عن معيار الوحدة والتجانس والانسجام. ولغتنا كما تعرف مقسَّمة إلى عشرات، بل إلى مئات الدوارج واللهجات، وكل الإحصاءات -أو أغلبيتها- التي تتحدث عن العدد الكبير من متكلمي العربية إنما يعتبرون اللغة الدارجة لا الفصيحة؟.. ولك أن ترجع للتفاصيل إن شئت.
لم يكن في نيتي أن أدخل معك في جدال قصير أو طويل حول هذا الموضوع أو غيره من الموضوعات، ولا أن أطرح عليك سؤالاً عما تفعل أو لا تفعل، فذلك شأن لا يهمني، وإنما علَّقت بكلمات مؤدَّبة جدا على تعليقك الذي استعملت فيه كلمة غير لائقة، ثم وجدت نفسي الآن مضطرا للرد مرة ثانية على تعليقك الآخر الذي زدتَ في طينه بلّة، حتى كسَرتَ الجرّة.. شَفاك الله وعافاك.