منذ بروز الأحزاب السياسية إلى الوجود في المغرب، باعتبارها مؤسسات سياسية اجتماعية يرتبط وجودها ارتباطا وثيقا بالدولة والسلطة والصراع حولهما، مع بداية القرن الماضي وانطلاق الحركة الوطنية إبان عهد الحماية، كان حضور البعد القومي والعمق العربي جليا في كل تحركاتها وبياناتها والتزاماتها. فبالرغم من انشغالها بالقضايا الوطنية، معركة التحرر في الاستعمار والإصلاح وبناء الدولة القطرية في الاستقلال، كان تمثل الأحزاب الوطنية للقضايا العربية والإسلامية أحد مرتكزات برنامجها المقدم للمواطن المغربي. وقد شكلت قضية فلسطين والانتماء العربي للمغرب أحد أهم انشغالات السياسيين المغاربة. ففي سنة 1975، وخلال مؤتمره الوطني، لم يفوت حزب التقدم والاشتراكية الفرصة للتأكيد على ” أن مهمتنا الأولى حاليا… بناء وحدة المغرب العربي كمرحلة أولى تسهل عملية الانتقال إلى المساهمة الواعية الراسخة في تكوين الوحدة العربية الشاملة”. ولم يختلف موقف الاتحاد الاشتراكي كثيرا عن هذا المسار القومي الذي اعتبر حينها أحد مبررات الوجود السياسي للهيئات الوطنية. حيث اعتبر في المؤتمر الرابع للحزب الذي عقد في سنة 1983، “أننا في المغرب جزء لا يتجزأ من الوطن العربي وتجمعنا به وحدة المصير ونقاسمه ويقاسمنا السراء والضراء في صراعه وصراعنا ضد التخلف”. أما حزب الاستقلال فمواقفه التي تحرص على العمق العربي للمغرب وتساند القضايا العادلة للأمة تملأ إصدارات الحزب وكتابات الزعيم علال الفاسي. ويكفي أن نذكر بخطابه لسنة 1970 حيث أعلن عن تأييده المقاومة الفلسطينية ومطالبته بنصرة القدس ومواجهة العدو الصهيوني باعتبارها مطالب الشارع المغربي. كما أكد حزب العدالة والتنمية في العديد من الفرص على لسان أمينه العام بأن حزبه “جعل فلسطين على رأس القضايا التي يدافع عنها”.
من خلال هذه النماذج تماثل تعاطي الأحزاب الوطنية بكل انتماءاتها الإيديولوجية والسياسية مع القضايا العربية، وأهم عناصر التماثل هو إيمانها بالعمق العربي الإسلامي للمغرب واعتبار القضايا العربية قضايا وطنية ينبغي استحضارها في كل التحركات والنقاشات. فكانت فلسطين قضية وطنية، كما لم تتوقف عن دعم الشعوب العربية التي عانت الاحتلال والحروب. لكن البادي أن هناك تغييرات في بوصلة الانتماء جعلت هذه الهيئات تعرض عن التداول في قضايا الأمة وتتعامل معها خارج منطق الانتماء والشعور الوحدوي. فبيروت التي احتضنت هذه الأحزاب ونقاشات قادتها انفجرت وغدت مدينة منكوبة، والقضية الفلسطينية التي اعتبرت وطنية تتعرض للتصفية مع تسارع مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، والعالم العربي منقسم على نفسه في سوريا وليبيا واليمن….، والاصطفاف الإيديولولوجي ينخر الشعوب مهددا بالقضاء على الدول…في مقابل صمت مريب لهذه الأحزاب التي اختارت الانزواء في ذاتيتها الضيقة.
كثيرة هي الأسباب التي يمكن من خلالها تفسير هذا التراجع عن الاهتمام بالقضايا القومية والاكتفاء بدور المتفرج أمام شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام العربية والعالمية. منها ما يرتبط بانسحاب هذه الأحزاب من تدبير العلاقات مع الخارج واحتكار الدولة لتدبير السياسة الخارجية منذ إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، إضافة إلى الإنهاك الذاتي للأحزاب من خلال حصر انشغالاتها في التدبير اليومي التقني دون القدرة على بلورة استراتيجيات تتجاوز اللحظة أو الحدود. ويكفي أن نراجع البرامج الانتخابية لنكتشف فقرها من حيث الموقف من القضايا الدولية، مع العلم أن علاقة الداخل بالخارج غدت جدلية يمكن مراجعتها في إطار مفهوم جديد للحدود والمجالات. كما أن هناك عاملا رئيسيا يتعلق بالمزاج العام الذي خنق المواطن في ضرورياته الحياتية وجعل الحزب الذي كان يقوم بأدوار تأطيرية وتعبوية يتيه في الإجابة عن الإشكالات الظرفية. إضافة إلى تضخم الانتماء القطري في جوانبه السلبية تحت مزاعم “تمغريبت” بغية المزايلة عن ملامح الانتماء العربي دينيا ولغويا… وحتى شعوريا. كل هذه العوامل يمكن أن تقدم مفاتيح لتفسير هذا العزوف الحزبي عن إصدار المواقف وغيابها على الساحة العربية التي تعتمل بالأحداث والقضايا.
لكن الأكيد أن ابتعاد الأحزاب الوطنية عن الشأن العربي والقومي لا يؤثر فقط على أدوارها التأطيرية فحسب، بل يؤثر على الحضور المغربي في الشأنين العربي والإسلامي. وإذا كانت الدولة تقوم بأدوار معينة في ربط جسور هذا التواصل وفق المتاح، فإن للأحزاب أدوارا لا يمكن الاستغناء عنها أو تعويضها. لأن القاعدة الأساسية التي ينبغي أن تحكم تصورنا هو أنه لا يمكن، بل ويستحيل، النهوض بالأحوال المعيشية للمغاربة خارج إطارهم الإقليمي، وأن الحلم بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية في استقلال عن المجال العربي باعتباره عمقنا الحيوي والاستراتيجي والانتمائي هو وهم.