د.لطفي الحضري يكتب: تلبيس “أنا عبد مأمور”

هوية بريس – د. لطفي الحضري
الوجه الكاذب للطاعة
“أنا عبد مأمور”، تُقال هذه العبارة بثقة خادعة، وكأنها تبرئة للضمير، وتعليق للنية، ودفن للمسؤولية. لكنّها في حقيقتها ليست إلا تلبيسًا نفسيًّا قاتلًا، يُغطّي به الظالم جبنه، ويغلف به المتواطئ ضعفه، ويُخفي به الإنسان انسحاقه خلف جدار السلطة.
إنها العبارة التي تحوِّل المجرم إلى أداة، وتحوّل الإنسان إلى ترسٍ في آلة القهر، بلا ضمير، بلا عقل، بلا فطرة.
وهذا هو الضنك، حين يُلغى صوت النفس اللوّامة، وتُدفن الاستجابة لنداء الحق، وتُكسر مرآة الإنسان بداخله.
القول: “أنا عبد مأمور”، ليس مجرد تبرير قانوني، بل هو افتراء على الفطرة والشرع.
لأن الإسلام لا يُسقط المسؤولية عن الإنسان لمجرّد أنه تحت أمر أو سلطة، بل يُلزمه بالحكم، ويُحمّله التمييز، ويجعل الطاعة خاضعة لمعيار أعلى: الحق والعدل.
-﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾،
-﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾،
لو كانت الطاعة وحدها مبررًا، لما غرق جنود فرعون. فقد كان القرآن دقيقًا، حين قال:
﴿…. ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)﴾، (سورة القصص).
﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾، [القصص: 40]، الآية لم تُلقِ اللوم على فرعون وحده، بل أيضا على هامان، وجنودهما، لأنهم جميعًا اختاروا أن يكونوا أدوات في مشروع الظلم.
التلبيس النفسي: حين يختبئ الجبن أو الخوف خلف الطاعة
إن العبارة المسمومة “أنا عبد مأمور” تنبع من انفصال داخلي، حيث يُقنع الإنسان نفسه أنه مسلوب الإرادة، لا يملك خيارًا، وأن ما يفعله ليس سوى تنفيذ للأوامر. لكن الحقيقة أن كل فعل يمر أولًا على الإرادة، ثم القرار، ثم الحركة. لا أحد يقتل بريئًا بأصابعه دون أن يمر القتل على قلبه.
ولا أحد يضرب أو يهين دون أن يُسكت ضميره أولًا.
في هذا التلبيس، يحدث خلطٌ مروّع بين الطاعة والانصهار، بين الانضباط والإلغاء، بين الانقياد والخنوع.
إن الفطرة تقول لصاحب هذا التلبيس: “كنتَ تستطيع أن ترفض، كنتَ تستطيع أن تقاوم، أن تنسحب، أن تعتذر، أن تقول لا. وإن لم تفعل، فأنت شريك، لا أداة.”
كم من الناس في التاريخ رفضوا الأوامر الجائرة ودفعوا الثمن؟
وكم من الذين قالوا “أنا مأمور” ماتوا وذكرهم التاريخ مجرّد مجرمين مغمورين؟
الفرق هو في الضمير. في تلك الشعلة الصغيرة من الوعي التي تُنير القرار ولو في أعتى ظلمات السلطة.
من طاعة السلطة إلى عبودية البشر
المأمور الذي يتنازل عن إنسانيته تحت ذريعة “الانضباط” لا يُطِع السلطة، بل يعبدها. يعبدها حين يُقدّم أمرها على ضميره. يعبدها حين يقتل بريئًا بغير وجه حق. يعبدها حين يُمارس القهر ويسمّيه وظيفة.
وهنا ننتقل من “أنا عبد لله” إلى “أنا عبد للبشر”، وهنا يكمن الضنك الحقيقي: أن تفقد مركزك الوجودي، وتنسى من تعبده ومن تحاسب أمامه.
الوعي سبيل النجاة
النجاة من هذا التلبيس تبدأ من لحظة صدق:
-هل أنا حقًا مسلوب الإرادة؟
-هل أجبرت على ما فعلت؟
-هل كان لي خيار وسكتُّ عنه؟
القرآن علّمنا أن الإنسان مسؤول عن فعله، حتى لو كان ضمن بنية حكم جائر، وحتى لو كانت الأوامر ضاغطة.
-﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾،
-﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾،
“سيكولوجية التاريخ”: حين واجه الناس التلبيس
1. محاكمة نورمبرغ (1945) – ألمانيا النازية
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انعقدت محاكمات نورمبرغ الشهيرة لمحاكمة كبار قادة النظام النازي المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وعلى رأسها جرائم الإبادة الجماعية. وكان الدفاع الذي تكرر على ألسنة العديد من الضباط المتهمين هو: “كنا ننفذ الأوامر فقط”. غير أن المحكمة رفضت هذا التبرير، وأرست مبدأ قانونيًا وأخلاقيًا جديدًا في التاريخ المعاصر: “لا طاعة في الإجرام“، أي أن الفرد يظل مسؤولًا عن أفعاله، حتى وإن كان يتحرك بأمر من سلطة أعلى.
وهذا المعنى لم يكن جديدًا على العالم الإسلامي، بل قرره النبي ﷺ قبل قرون حين قال: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”. فمن الأصول الراسخة في الشريعة الإسلامية أن طاعة المخلوق تكون مقيدة بعدم مخالفة أمر الله تعالى. فالابن يطيع والديه، ولكن لا في معصية، وأفراد الأمة يطيعون ولاة أمرهم، ولكن في حدود طاعة الله عز وجل.
ولهذا، فإن الانخراط في فعل ظالم أو المشاركة في حركة تتسم بالجور، بحجة تنفيذ الأوامر، لا يُعفي المرء من المسؤولية، بل يعني أنه قد أطاع المخلوق وعصى الخالق، وهو ما لا تقبله الشريعة ولا يقبله الضمير الإنساني.
هذه لحظة مهمة في سيكولوجيا التاريخ: تحوّل الضمير الإنساني من تبرير بالجماعة إلى مساءلة للفرد، ومن عبودية للنظام إلى إدانة للسكوت.
2. سحرة فرعون
حين أمرهم فرعون أن يتبعوه ويُظهروا تأييدهم ضد موسى، وانتصرت حيلهم لحظيًّا، وأسلموا بعد أن تبين لهم الحق، قال لهم فرعون: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾. لكنهم أجابوه بقوة نفس نادرة: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾. لو كانوا من أهل “أنا مأمور” لبقوا تحت مظلة فرعون، لكنهم انتقلوا من موقع الأداة إلى موقع الوعي الكامل، في لحظة واحدة.



