ذة. وصال تقة: بوصلات على الطريق (ج3)
هوية بريس – وصال تقة
أعتى الصراعات التي تتقاذف النفس البشرية، تلك التي تجري في أعماقها. صراع الخير والشر، الصمت والكلام، الإقدام والإحجام، القبول والرفض، الاختيار بين العقل والقلب، بين الواقع والأحلام، بين الممكن والمستحيل.
إعادة ترتيب الأوراق، ترتيب الخطو، ترتيب المشاعر، تصنيف العلاقات مع أفراد المجتمع، ترتيب المشاريع والطموحات لا تخلو من صراع ولا يمكن أن يستكين المتورط في شباك اتخاذ قرار، إلا إذا اتخذه فعلا. ويكون الأمر في أوج صعوبته، حينما يتعلق بذوي النفوس العالية، والطموحات السامقة، ومحبي استقصاء الكمال والجمال، المعتادين على التفوق والنجاح.
يعمد الإنسان في الغالب إلى المواجهة ومباحثة حلول جذرية، وأحيانا ينصرف إلى حلول ترقيعية آنية، وأحيانا أخرى، يكون مضطرا إلى صنع حيل دفاعية تساعده على تجاوز الأزمة. التناسي والهروب والانهماك حد نسيان الذات فوق عجلة الحياة تدهس بها مجرد التفكير في الخصوصية أحدها. التفاؤل المبالغ فيه، مثال آخر، واليأس والتيئيس والاستسلام حيلة دفاعية أخرى قد تعين فعلا في الحسم في اتخاذ القرار.
أكثر ما يوجع المتورط، اضطراره إلى المكوث بتلك المنطقة الرمادية التي تبتلع الضوء ولا تترك للسواد شرف حلكته. تلك التي ينبعث منها بصيص نور غير قادر على أن يبدد السواد وينثر ذراته، ولا هو قد انحسر فترك الصولة للظلام. مرتع خصب للشكوك والأوهام والاكتئابات والأزمات النفسية.
الموازنات مهمة جدا عند اختيار المواجهة، والقدرة على القيام بها مهمة أيضا، لكن الأهم؛ الحنكة في استعمالها. اعتاد الناس في إطار موازناتهم على فصل العقل عن القلب من أجل الحصول على قرارات موضوعية، لكن قد يكون فعل ذلك أحيانا جناية في حق الموضوعات التي لا يمكن مقاربتها بعقل صرف دون مساندة للأنا وللمشاعر وللذاتية.
نأخذ بالأسباب، ونستشير، ونوازن، ونبالغ في إعادة ترتيب المتبعثر من ملفاتنا في كل مرة، لكن علينا ألا نغفل التفويض وتوكيل الأمر للوكيل سبحانه، والانطراح بين يديه نعوذ بقوته من ضعفنا وقلة حيلتنا، وبغناه من فاقتنا وعالتنا، وبرحمته ولطفه ووده من جبروت القرارات وتسلط الحيرة والشك وصولة صراعات الأفكار.
ابن القيم: إن التوكل يجمع أصلين: علم القلب، وعمله، أما علمه: فيقينه بكفاية وكيله وكمال قيامه بما وكَله إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك، وأما عمله: فسكونه إلى وكيله وطُمَأنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أمرَه إليه، ورضاه بتصرُّفه له فوق رضاه بتصرُّفه هو لنفسه.