ذ. حماد القباج يكتب: التعري.. بين الدين والإلحاد (نظرات في الفقه والتاريخ والأدب و(السوسيولوجيا))
هوية بريس – ذ. حماد القباج
كثيرا ما يحاول بعض أنصار الإلحاد صبغة الفكر الإلحادي بصبغة العلمية؛ ويتبنون بعض النظريات التي يرون أنها ستساعدهم على تأكيد مخالفة التصورات والأخلاقيات الدينية للحقائق العلمية، وفي هذا الصدد يتم تمويل دراسات وأبحاث موجهة ضد الدين والأخلاق.
وأصول تلك النظريات هي:
1 نظرية داروين عن أصل الأنواع؛ التي وضعها الباحث اليهودي (تشارلز روبرت داروين) (Charles Robert Darwin) (ت. 1882م).
2 ونظرية ماركس عن الاقتصاد وعلاقة الإنسان بالمال؛ التي وضعها الباحث اليهودي (كارل ماركس) (ت. 1883م).
3 وبعدهما جاء اليهودي (سيغموند شلومو فرويد) (ت. 1939م) بنظريته عن الأخلاق والسلوك الجنسي للإنسان.
والتي يبدو أنها ساعدت على انتشار ما يمكن تسميته ب: “التنظير العلمي لفلسفة العري”.
لقد كان من التصورات الوهمية التي أفرزتها مثل تلك النظريات؛ أن الإنسان الأول كان جاهلا إلى درجة تجعله قريبا من الحيوان، وكان في شكله عاريا وذا سلوك متوحش!
وعملت “وسائل الإعلام” الموجهة على الترويج لهذا التصور، كما عملت “أبحاث ودراسات” على السعي للبرهنة عليه والاستدلال له ..
وإذا كنا لا نجد لمثل هذه التصورات عن أصل الأنواع والسلوكيات البشرية؛ مستندات علمية رصينة؛ فإننا نجد القرآن الكريم يخطئها ويعتبرها ظنونا لا برهان عليها:
قال الله سبحانه مبينا أن نظريات الإنسان الملحد المتعلقة بالخلق وأصل الخليقة لا تستند إلى معطيات موضوعية: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]
وقال سبحانه مبينا افتقادهم إلى العلم واتباعهم للظنون والأوهام: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]
قال الله تعالى مبينا أن الإنسان الأول كان متعلما وواعيا معلِّما:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 31 – 33]
وقال سبحانه مبينا أنه خلق الإنسان ذا كرامة وسؤدد:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]
وقال عز وجل مبينا أن الإنسان الأول كان يتمتع باللباس بنوعيه الضروري والكمالي:
{يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف (26)]
{لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ}: هو اللباس الضروري
{وَرِيشًا}: هو اللباس الكمالي؛ لباس التجمل والحسن.
قال المفسرون:
“امتن الله على بني آدم بما يسر لهم من اللباس الضروري، واللباس الذي المقصود منه الجمال، وهكذا سائر الأشياء؛ كالطعام والشراب والمراكب، والمناكح ونحوها، قد يسر الله للعباد ضروريها، ومكمل ذلك”اهـ
وبين سبحانه أن انكشاف العورة وظهور السوءة مطلب شيطاني، لا يقبله الإنسان الكريم:
{يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا} [الأعراف 27]
قال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره لهذه الآية:
“هذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض ..”.
قال: “والنّداء بعنوان بني آدم: لزيادة التّنويه بمنّة اللّباس، وفيه توكيداً للتّعريض بحماقة العُراة“اهـ.
قال عالم الاجتماع “الإثنولوجي“ المؤرخ “أندريه لورْوا غوران“:
“اللباس تعبير عن الكرامة ورمز للوظيفة الإنسانية“.
ومن المفاهيم المحورية التي ثبتت في الدين الإسلامي الحنيف في هذا الموضوع: مفهوم “حفظ العورة”:
عن معاوية بن حيدة أن النبي قال له: “احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك“.
قال: قلت: “فإذا كان القوم بعضهم في بعض”؟
قال: “إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها“.
قلت: “يا رسول الله إذا كان أحدنا خاليا”؟
قال: “فالله أحق أن يستحيى منه“.
التعري في تاريخ الإنسان:
وقد يتساءل المرء:
فما مصدر المعلومة التي تفيد بأن الإنسان الأول كان عاريا؟
ومن أين جاءت صور “المستحثات” التي يستدل بها لهذه المعلومة؟
والجواب:
أن تلك المعلومات مشحونة بأنواع من التلبيس والمغالطات؛ وكان حال بعض علماء المادة معها؛ كحال الكهان الذين يتلقفون خبر السماء من الجن فيزيدون فيه مائة كذبة.
نعم؛ التاريخ أثبت بأن بني آدم كانت فيهم فئام وتجمعات بشرية شبه عارية من اللباس، كما أشار إلى تنوع أسباب هذا السلوك؛ فمنهم من كان لا يعرف اللباس، ومنهم من كان يتعمد التكشف لشبهة في عقله، أو لمرض في نفسه.
مثال الأول: قبائل كانت تعاني من الفقر والجهل؛ فكانت لا تهتدي إلى صنع اللباس.
ومثال الثاني: تعري العرب عند طوافهم بالكعبة؛ بشبهة أنهم لا ينبغي لهم الطواف بثياب عصوا الله فيها.
ومثال الثالث: العري المعاصر الذي ينبع من هوس جنوني بالتعري والشذوذ الجنسي والجشع المادي، مما جعل أصحابه يعلنون انحرافهم بالأفلام والصور الإباحية، ونوادي وشواطئ التعري، والزواج المثلي ..إلـخ.
قال المفسرون:
“قوله عز وجل: {يَا بَنِيَ آدَمَ َقَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} نزلت هذه الآية في قوم من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك أبلغ في الطاعة وأعظم في القربة!
وفي دخول الشبهة عليهم في ذلك وجهان:
أحدهما: أن الثياب قد دنستها المعاصي فخرجوا عنها!
والثاني: تفاؤلاً بالتعري من الذنوب!
فقال الله تعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} أي ما تلبسون من الثياب”اهـ.
ولئن كانت هذه هي فلسفة العرب قديما في تعرّيهم؛ فإن آخرين اليوم يستبيحون سلوك التعري باسم الأدب والفن وحوار الثقافات والاحتجاج السياسي .. إلـخ.
وقد أبرز بعض علماء التاريخ أن البشر الذين كانوا متجردين من اللباس؛ كان منهم أقوام انحرفوا عن توجيهات الأنبياء وما أرشدوا إليه البشرية من كمالات حضارية وسلوك يحفظ الكرامة الإنسانية.
وقد عصى هؤلاء أنبياءهم فيما هو أعظم من “اللباس والستر”؛ ألا وهو “توحيد الخالق” جل وعلا؛ فانتكسوا بسبب ذلك إلى أحط المظاهر وأقبحها: عبادة الأصنام والأحجار والأقمار؛
فكيف لا ينتكسون فيما هو دون ذلك؛ فيصيرون عراة متجردين؟؟
الأدب وعشق العري:
ارتبطت ظاهرة التعري وحب العري بمجال “الأدب” منذ غابر الزمن؛ ارتبطت به لكون الأدب علما وضع للتعبير عن المعاني الجميلة بأفضل الأساليب وأبلغ العبارات.
لكن انحراف الذوق جعل كثيرين يعتبرون المجون والتعري من الجمال والحسن؛ ومن هنا لاحظنا اشتمال “التراث الأدبي” على كثير من النصوص الشعرية والنثرية في عشق الجسد العاري والتدقيق في وصفه والتعبير عن حبه إلى درجة تصل أحيانا إلى التأليه والعياذ بالله.
وقد وجد في كل أمة مصلحون ما فتئوا يؤكدون – بدافع ديني أو ذوقي أدبي سليم- انحراف هذا المسلك، وقبح الذوق الذي ينبني عليه.
وعرف هذا الانحراف عند علماء الإسلام باسم: “عشق الصور”، وتتابعوا على عده مرضا قلبيا يحتاج إلى علاج قوي وطويل الأمد. [الداء والدواء لابن القيم نموذجا].
ولما تفتق الفكر “الحداثي” المعاصر من “الفلسفة المادية الملحدة” التي انتصرت في ثورتها على “النصرانية المحرفة”، دعم ذلك التوجه المرضي في علم الأدب، فيما سمي: “أدب الحداثة”.
وقد ظهرت في هذا المجال: (إبداعات)! تؤله التعري وتعتبره شيئا ضروريا في حياة الإنسان؛ (رواية: (هيا بنا نتعرى) -للروائية السورية راغدة خوري- نموذجا).
سوسيولوجيا العري .. الديالمي نموذجا:
سعى بعض عشاق العري إلى توظيف “علم الاجتماع” و”علم النفس” لتسويغ “سلوك التعري” ونشر “ثقافة العري” ..
ويمكن أن نضرب مثالا بعبد الصمد الديالمي؛ وهو باحث مغربي اجتماعي مهووس بالحديث عن الجنس والجسد النسائي؛ كما نستشف من كتابيه: (المرأة والجنس في المغرب) و(السكن الجنسي والإسلام).
ويمكن اعتباره أحد منظري المذهب الاستعرائي في علم الاجتماع (Exhibinitionism).
ومن مزاعمه في هذا الصدد؛ أن الفرج في حد ذاته ليس سوأة وليس عورة؛ وإنما جعلته بعض الأديان كذلك!
وأن كل المجتمعات انطلقت من العري الطبيعي إلى اللباس، وأن الأخذ باللباس الثقيل كان سمة المجتمعات (الوسطوية) ما قبل (الحداثية)، وأن المجتمعات (الرأسمالية) (الحداثية) ترجع إلى (العري النسبي)!
وتقييده لعودة الغرب للعري بـ(النسبية) محاولة لذر الرماد في العيون، فهو يعلم جيدا أن مآل هذه العودة مطلقة غير نسبية، ودليل ذلك هو مجتمعات العري في أمريكا وأوروبا، وليست شواطئ العرايا بخفي أمرها.
بل ذهب بعضهم إلى اعتبار التعري انتصارا عظيما -للإنسان الذي استطاع أن يرى نفسه عاريا- يعبر عن إعادة التناسق مع الطبيعة بجميع أشكالها كما في كتاب (العري واللباس/Le nu et le vêtement) لـلباحث الاجتماعي المهووس بالكتابة عن الجسد والعري (مــارك ألان/Marc-Alain) صاحب كتاب: (الحياة عاريا).
وتعجب كثيرا من هذا الاهتمام الكبير لعلماء الاجتماع العلمانيين بالجسد وعريه؛ ومن ذلك تعجبه من كتاب ألفه (جون كلود هوفمان) سماه: (جسد المرأة، نظرات الرجال، وسوسيولوجية الثدي العاري) (Corps de femmes، regards d’hômmes. Sociologie des seins nus)!!!
عجيب أن يكون للثدي العاري أيضا حظه من الدراسات السوسيولوجية، ومثله استغرب عالم الاجتماع الفرنسي فرنسوا إيران (François Héran) في مقال له في مجلة علم الاجتماع الفرنسية (Revue française de sociologie) (العدد-37-1).
يقول عالم الاجتماع الدكتور أحمد إبراهيم خضر في كتابه الرائع (اعترافات علماء الاجتماع/ ص168):
“يشترك باحثونا في هذه الدراسات التي تجريها هذه الجامعات أو هذه الهيئات ويسيل لعابهم أمام العائد الدولاري الكبير …لم يستوعب باحثونا أن هذه البحوث ما هي إلا شكل آخر من أشكال خدمة الأهداف الغربية …
المهم هنا أن باحثينا قد دافعوا عن اشتراكهم في هذه البحوث وكانت حجتهم أن الأمريكيين واليهود يحصلون على ما يريدونه من معلومات لأن أعمالهم منشورة، ولأن البحوث في بلادنا بحاجة إلى تمويل، وميزانيات حكوماتنا لا تكفي وأنه لا بأس بتطوير علمنا بأموالهم”.
ومن أمثلة هؤلاء:
الباحث الاجتماعي إدريس بنسعيد؛ الذي قام بدراسة ميدانية “دوركايمية” في موضوع دراسة بعنوان: (الحجاب والشباب)؛ وكان ذلك بدعم من “صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة”.
اصطدام الحضارات وعولمة اللباس العاري .. المجتمع المغربي نموذجا:
من المطالب التي حرص عليها المحتل الأوروبي في غزوه المعاصر للعالم الإسلامي: تغيير نمط اللباس وجعله أقرب إلى صفة التعري منه إلى صفة الستر؛ وفي هذا الصدد تم العمل على عولمة نمط اللباس الأوروبي المعاصر بشكل دقيق وشامل؛ ووصل مصطفى كمال أتاتورك في هذا الصدد إلى درجة فرض إزالة “الطربوش” التركي واستبداله بالقبعة الأوروبية ..
وفي هذا السياق تم استهداف اللباس الإسلامي للمرأة بشكل غير عادي؛ وفي التاريخ المصري المعاصر صفحات كثيرة تقدم صورة واضحة في هذا الموضوع ..
قال الأستاذ محمد بن أحمد اشماغو في كتابه ” المجتمع المغربي كما عرفته خلال خمسين سنة، من عام 1350 إلى عام 1400 هـ” (ص 23)؛ متحدثًا عن طبقات المجتمع المغربي الغنية والمتوسطة والفقيرة:
“النساء كن محجبات في الطبقات الثلاث”.
واللباس المغربي عموما كان معروفا بصبغته المحافظة ومظهره المحتشم ..؛ [انظر على سبيل المثال؛ كتاب: “اللباس المغربي من بداية الدولة المرينية إلى العصر السعدي” للدكتور: محمد صقر، طبع وزارة الأوقاف”].
ويقول الدكتور مصطفى الحيا مبينا التأثير الفرنسي في مجال اللباس بالمغرب:
“.. ظلت المرأة المغربية لعهود طويلة تُعرف بزيها الأصيل والمحتشم الذي يشمل الجلباب والنقاب.
لكن عندما خرج الاستعمار الفرنسي ترك نخبة تكونت بفرنسا فبقيت الحياة التنظيمية والعصرية مطبوعة بالطابع الفرنسي؛ فأثر ذلك على المظهر الخارجي للمرأة المغربية الذي أصبح مطبوعاً بالطابع الأوروبي؛
فالحجاب هو من خصوصيات المرأة المسلمة، ومنها المغربية، وقد استطاعت النخبة المغتربة بالمغرب أن تؤكد أن من مظاهر تحرر المرأة المغربية هو نزعها للحجاب، بل ذهب بعض مناضلي اليسار المغربي (ويعني به المهدي بنبركة) إلى اعتبار نزع المرأة المغربية للحجاب هو احتجاج على الاستعمار الفرنسي!
وهذا منطق مغلوط؛ لأنه لا يمكن أن تكون مواجهة ومقاومة للغرب بنفس غير النفس الديني الإسلامي، وبدون الاعتماد على مقوماتنا، وخاصة أن عنصر القوة فينا هو الإسلام؛
ففي الجزائر مثلاً أصيب الاستعمار الفرنسي أثناء احتفاله بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر؛ بالخيبة والحسرة عندما وجد نفسه أمام كم هائل من النساء الجزائريات المحجبات، فتأكد له أن كل خططه لن تنجح ما دامت المرأة ظلت متمسكة بدينها“.
(المصدر: مركز يقين).