ردا على عصيد.. المخربقون!

هوية بريس – محمد أمين خولال
يقول أحمد عصيد في المقطع المنتشر هذه الأيام المباركة: «الإلحاد ليس سهلا، ليس من السهل أن تكون ملحدا، الإلحاد يأتي بعد مسار طويل ديال التفكير والمطالعة والبحث والقراءة، وديال المجلدات والكتب والمراجع، الملحد لا يأتي ويصبح ملحدا».
قلتُ: نعم صحيح، الإلحاد يأتي بعد مسار طويل من القراءة المتخبطة والتيه المنهجي، وبعد مخاض عسير من الاضطرابات النفسية والمعرفية، أما حين الانضباط المنهجي والقراءة العميقة والتضلع المعرفي، فالإنسان لا يسعه إلا أن يكون مؤمنا، يقول فرانسيس بيكن، (مؤسس) المنهج التجريبي الحديث: «صحيح أن القليل من الفلسفة يدفع عقول البشر تجاه الإلحاد، لكن التعمق في الفلسفة يقودها نحو الدين»¹.
ويقول فيرنر هايزنبرغ الحاصل على نوبل في فيزياء الكم: «الرشفة الأولى من كأس المعرفة الطبيعية ستجعلك ملحدا، ولكن في نهاية الكأس، سوف تجد الإله في انتظارك»².
وهذا له شواهد كثيرة من الواقع، من أهمها قصة الملحد الشهير أنتوني فلو، الذي قضى عمره كاملا يبحث في الإلحاد ويبشر به ويدافع عنه، ثم انتهى بعد تعمق بحثه واختمار معرفته إلى الرِّدَّة عن إلحاده والاعتراف بوجود إله في كتابه الأخير ”هناك إله- Theres a God“، وقد سبق أن ألقيت محاضرة بخصوصه³.
فالذين يتحدث عنهم عصيد، أولئك الذين ألحدوا عن قراءة ومطالعة، هم في الحقيقة يتململون فوق رَغْوة المعرفة.
ثم يقول عصيد: «هل سبق أن رأيتَ أميا ملحدا».
قلتُ: نعم لقد سبق أن رأيتُه، وحاورته. بل أغلب كفار قريش كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة.
ثم نقول: إن المسألة مرتبطة بالجهل لا بالأمية، فكم من رجل لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولكنه حكيم عاقل، وفِطرته مازالت على الأصل الأول لم تُمسخ، وكم من قارئ وباحث لم تزده القراءة إلا جهلا فوق جهله، {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.
ثم يقول عصيد: «الملحدون يقرؤون كثيرا، لنأخذ لائحة كبار علماء البشرية، كبار المخترعين، كبار علماء الرياضيات والفيزياء والفلك والعلوم الدقيقة، سنجد أن غالبيتهم العظمى أناس ليس لهم إيمان ديني».
قلتُ: أين توجد هذه اللائحة؟ لن تجد لها ذِكرًا إلا في الحكايات الشعبية للإلحاد، ويبدو أن عصيد يستروح لسطحية متابعيه الذين يتلقفون أكاذيبه وتدليساته بعيون مُعصَّبة، فلا أحد يسائله ولا أحد يراجعه في المعلومات السينمائية التي يتلوها في جميع مسرحياته.
أما الحقيقة فخلافُ ما يَذكره، إذ إن كبار العلماء على مر التاريخ لم يكونوا ملاحدة، بل كانوا مؤمنين.
يتضمن كتاب ”مئة عام من جوائز نوبل- 100 Hundred Years Of Nobel Prizes“ معلومات الحاصلين على الجائزة في القرن الأخير، منذ سنة 1901م إلى سنة 2000م. وفيه جاء أن نسبة الملاحدة من الحاصلين على نوبل لا يتعدى 10.5%، بينما الباقون كلهم أصحاب معتقدات دينية وإيمانية⁴.
ويمكن قراءة كتاب ” خمسون حائزا على نوبل وعلماء عظماء آخرون يؤمنون بالإله- 50 Nobel Laureates and Other Great Scientists Who Believe in God“ حيث قضى مؤلفه تيهومير ديميتروف أحد عشر عاما في البحث والتنقيب في المصادر ليوثق آراء أبرز العلماء المرموقين وتصريحاتهم فيما يخص الإيمان بوجود الإله.
كما يمكن قراءة كتاب ”Of God and Dice: Quotes from Eminent Scientists Supporting a Creator“ الذي جمع فيه جوردن ليدنر ما يزيد على 250 تصريحا واقتباسا لحوالي سبعين عالما من كبار العلماء عبر التاريخ، حول الإيمان بالإله والخالق وصلة العلم الوطيدة بالإيمان.
فمَن هم كبار العلماء هؤلاء الذين يتحدث عنهم عصيد؟ كوبرنيك وكيبلر لم يكونا ملحدين، غاليليو لم يكن ملحدا، نيوتن لم يكن ملحدا، آينشتاين لم يكن ملحدا، ماكسويل لم يكن ملحدا، ماكس بلانك لم يكن ملحدا، باسكال لم يكن ملحدا، فاراداي لم يكن ملحدا، بويل لم يكن ملحدا، هايزنبيرغ لم يكن ملحدا، شرودنغر لم يكن ملحدا… بل كان عدد منهم شديد الإيمان، مثل نيوتن، نقتبس: «إن الدليل الأكثر حسما على توافق الدين مع العلوم الطبيعية، حتى في ظل الفحص النقدي الأشمل، هو الحقيقة التاريخية المتمثلة في أن أعظم علماء الطبيعة في كل العصور -رجال مثل كيبلر، ونيوتن، وليبنيز- كانوا منغمسين في أعمق المواضع الدينية. وفي فجر عصرنا الحضاري، كان ممارسو العلوم الطبيعية حملة الدين في الوقت نفسه»⁵.
ثم يقول عصيد: «لنأخذ كبار الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ، والشعراء الكبار».
قلتُ: نعم لنأخذ كبار الفلاسفة والمفكرين، هل كانوا ملاحدة ينكرون وجود إله؟ هل أرسطو كان ملحدا؟ هل أفلاطن كان ملحدا؟ هل الكندي الذي كان من مؤسسي دليل الحدوث على وجود الإله كان ملحدا؟ هل ابن سينا مطور دليل الإمكان في البرهنة على وجود الإله ودليل الصديقين كان ملحدا؟ هل الفارابي كان ملحدا؟ هل ابن رشد الفيلسوف الذي كان قاضيا يُفتي بالفقه التقليدي كان ملحدا؟ حتى عندما انتقدهم علماء الإسلام، لم ينتقدوهم أبدا لإنكار الخالق. وهل علماء الإسلام الكبار أنفسهم، الذين برعوا في العلوم والمعارف مثل الباقلاني وابن حزم والجويني والغزالي والفخر الرازي والشريف الجرجاني والسعد التفتازاني وابن تيمية الحراني كانوا ملاحدة؟
طيب هل إمام فلسفة الحداثة ورسولها الأشهر رينيه ديكارت كان ملحدا؟ هل فرانسيس بيكن الفيلسوف الذي يشتهر بتأسيسه للمنهج التجريبي الحديث كان ملحدا؟ هل لايبنز كان ملحدا؟ هل بيركلي كان ملحدا؟ هل هيغل كان ملحدا؟ هل إيمانويل كانط أكثر الفلاسفة تأثيرا في العصر الحديث كان ملحدا؟
فمن هم هؤلاء المفكرون والفلاسفة الكبار الذين يتحدث عنهم عصيد؟ هل يقصد الدكتور الفايد ورشيد أيلال مثلا؟؟
نعلم يقينا أن عصيدًا لن يتجرأ على ذكر أسماء هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الكبار، الملاحدة، لأن ثقافته الشعبية والمستهلَكة لا تؤهله للخوض في هذا الموضوع، ولهذا لجأ إلى الشعراء.
يقول: «والشعراء الكبار، إذا أخذنا مثلا أكبر شاعر اللغة العربية، من هو؟ هو المتنبي، وأنا عاشق للمتنبي وديوانه لا يفارقني، ماذا قال الشخص الذي كتب على حياته كتاب “الصبح المنبي في أخبار أبي الطيب المتنبي” يقول: “عرفت عنه ثلاث خصال مذمومة ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن”».
قلتُ: هذا الكلام عليه إشكالات من وجوه:
– أولا: قول عصيد إن المتنبي أكبر شاعر في اللغة العربية لا يُسَلَّم، على جلالة المتنبي.
– ثانيا: ما علاقة العربية بالاستدلال على صحة الإلحاد والكفر؟ فكفار قريش أفصح العرب، فهذا حجة عليهم لا لهم.
– ثالثا: ما وجه الاستدلال بالشعراء في هذا المقام؟ فالشعراء قديما يمكن تشبيه بعضهم بالمطربين اليوم، فيهم بعض الملتزمين، وفيهم قليلوا الديانة، كما هو شأن كثير من المطربين. هل يمكن الاستدلال بقيس مجنون ليلى على صحة الإلحاد مثلا؟
– رابعا: اختلف المترجمون في تديُّن المتنبي ومخاريقه، لكن لم يُقطع بأنه ملحد كان ينكر وجود الإله. فما وجه الاستدلال به؟
– خامسا: المقولة التي ساقها عصيد من كتاب “الصبح المنبي” لم أقف عليها، وعلى صحتها فيها انتقائية وتدليس، إذ إن المترجم ساق هذا الخبر وغيرَه، ومن ذلك قوله: «ثم قال: وحدثت أن المتنبي كان يصلي بموضع بمعرة النعمان يقال له؛ كنيسة الأعراب…»⁶.
ثم إن عدم الصلاة بغير إنكار لها يعتبر عصيانا لا إلحادا، فما وجه الاستدلال بعدم صلاة المتنبي -إن صح ذلك- وعدم قراءته القرآنَ على إلحاده؟ بل إن الاستدلال بذلك دليل على إيمانه أصلا، لأن المُلحد لا يُعاب بتركه الصلاةَ وقراءةَ القرآن.
– سادسا: لنفرض أن ما قيل في المتنبي صحيح، هل فعلا أكثر الشعراء كانوا كذلك؟
ثم يقول عصيد: «هذا أكبر شاعر في العربية، الذي يتكون الفقهاء لغويا من شعره، لكنه لم يكن مؤمنا. بشار ابن برد، لم يكن مؤ… أبو نواس، لم يكن ممم… يعني كبار الشعراء في العربية ولا في غير العربية، كبار الشخصيات عبر التاريخ، ولكن هادو، راهوم نخبة النخبة، ليسوا من العامة أو من الجماهير».
قلتُ: كيف يتكون الفقهاء لغويا من شعر المتنبي؟ هل يعلم عصيد أن الشافعيَّ حُجَّةٌ في اللغة، وأن المتنبي -على جلالته- ليس حُجَّةً في اللغة؟
ثم من هم كبار الشخصيات هؤلاء؟ لقد كرر عصيد في كلامه أن كبار العلماء والمفكرين والفلاسفة كانوا ملاحدة، ولكنه لم يستطع أن يذكر منهم إلا ثلاثة شعراء على استحياء!
وهؤلاء الشعراء الثلاثة لا يمكن الجزم بإلحادهم، أي بمعنى إنكارهم لوجود الإله، وإنما قد يطلق الإلحاد على بعضهم بمعناه القديم، الذي كان يعني الزيغ والانحراف.
وحتى لو وُجد شعراء ملاحدة، وهم موجودون على قلتهم، فإنه يوجد شعراء مؤمنون، على كثرتهم، فماذا يريد عصيد أن يقول؟
الحاصل: إننا لا ننفي وجود فلاسفة ومفكرين ملاحدة، مثل فيورباخ وماركس ونيتشه وكونت، ولكننا ننبه إلى المغالطات الآتية:
– أن يتم الاستدلال بالفلاسفة والعلماء الملاحدة ويتم طي ملف العلماء والفلاسفة المؤمنين، وهم الأغلب.
– أن يتم الربط بين علم الفلاسفة والمفكرين الملحدين وبين عدم الإيمان بوجود الإله، ولا لزوم بين الأمرين، بدليل انفكاكه معرفيا وواقعيا.
– أن يتم الادعاء أن الفلاسفة والعلماء الملاحدة هم أكثر أو أكبر من غيرهم، بينما الواقع خلاف ذلك، فريتشارد دوكينز ملحد، ولورنس كراوس ملحد، وهاوكينغ لاأدري -على الأرجح-، لكن هؤلاء علماء عاديون جدا وإسهاماتهم لا تكاد تُذكر، وليسوا علماء كبارًا مثل نيوتن أو غاليليو أو آينشتاين أو ماكس بلانك الذين غيروا تاريخ العلم، فهؤلاء هم الكبار، وقد كانوا مؤمنين لا ملاحدة.
ربما كان عصيد يقصد بالفلاسفة والمخترعين الكبار نفسَه وأبا حفص والفايد وأيلال، هؤلاء الذين لو اعتصرتَهم جميعا في خلاط كهربائي لا يخرجون لك ربع طه عبد الرحمن.
ومع ذلك، يتم تصدير المخربقين والحشَّاشين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ