رسائل الـ”عاشور”
هوية بريس – حميد بن خيبش
إن كنت من أهل فاس، يقول الفنان الراحل أحمد الطيب العلج، فلابد أن تكون قد سمعت بهذه العبارة المتداولة على سبيل القسم أو الشتيمة حسب السياق:” بالخلا والجلا وشطابة عاشوراء”. وهي ترد إما لتغليظ القسم، وإما لبلوغ الخلاف مرحلة اللاعودة، حيث تنزل عاشوراء بكل ثقلها الديني والاجتماعي لتؤكد هول وخطورة الأمر، خاصة وأن صلتها ب”الشطابة” التي تكنس البيت يحيل على الخراب، والدور الخاوية على عروشها.
كان الاعتقاد السائد أن إدخال المكنسة إلى البيت في شهر محرم هو نذير شؤم وخراب وإفلاس؛ وإذا حتمت الضرورة ذلك فالنوافذ أو السطوح هي المسلك الوحيد، تفاديا للنوائب والمصائب. ورغم أن علماء القرويين شنوا من منابرهم حملة لا هوادة فيها ضد هذه الخرافة البالية ومثيلاتها، إلا أن العادات، وما أقبحها أحيانا، مارست حضورها الشعبي جنبا إلى جنب مع الرمزية الدينية لهذا اليوم، تحت مسمى التعبير عن الفرح!
ألّفت في فضل عاشوراء كتب ورسائل عديدة. منها ما اختص ببيان فضل صيامه، ومنها ما حذر من البدع والمحدثات التي تتخلله. ورغم أنه لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم شعائر حزن أو فرح بهذا اليوم، إلا أن الذاكرة الشعبية لازالت تحتفظ حتى اليوم بطقوس وممارسات مثيرة، تنحرف بعاشوراء عن معانيها الجليلة التي قررتها نصوص الحديث الشريف.
صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء لأنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام ومن معه من بطش فرعون وقومه. واحتسب عند الله تعالى أن يكفر صيامه السنة التي قبله، على خلاف بين الفقهاء حول تكفيره للصغائر أم للكبائر أيضا. وأعلن أنه سيصوم التاسع من محرم ليخالف اليهود في صومهم.
يتحصل إذن من أحاديث عاشوراء جملة من الفوائد يمكن حصرها كالآتي:
-عاشوراء يوم عظيم من أيام الله
-وقوعه في شهر محرم.
-تكفيره السنة التي قبله.
-تحري النبي صلى الله عليه وسلم صومه على سائر الأيام.
غير أن الإنسان لا يلبث أن يقع تحت تأثير مقولات وتصرفات، تعادل في إيحائها التنويم المغناطيسي، فيعتبرها من لوازم تدينه. هكذا تأخذ البدعة مسارا حثيثا داخل المجتمع نتيجة لتوهم العصمة في سلوك شيخ أو ولي، أو بسبب التهاون في بيان الشريعة، حتى قال الفقيه القيرواني سعيد بن الحداد: إن الذي أدخل كثيرا من الناس في التقليد نقصُ العقول ودناءة الهمم! فأدى وضع كهذا إلى ظهور ممارسات لاستجلاب بركة عاشوراء من قبيل: تخصيص قراءة الآيات التي ذُكر فيها موسى عليه السلام في صلاة الفجر ليوم عاشوراء، والاجتماع عند القبور صبيحتها، وإعطاء الزكاة المتأخرة للاعتقاد بفضل ذلك، والحرص على الاغتسال والاكتحال لأجل حصول البركة.
وفي حديث الرّبيع بنت معوذ أن الأنصار كانوا يُصوّمون صبيانهم الصغار ويذهبون بهم إلى المسجد، فإذا بكى أحدهم من الجوع أعطوه اللعبة من العهن (الصوف) ليتلهى بها حتى الإفطار. لكن العادة، وما أقبحها مرة أخرى، جعلت من عاشوراء مهرجانا للألعاب، وصار همّ الصغار أن يطوفوا في الشوارع لاستجداء المارة وطلب الإكراميات.
وفي أحياء ليبيا القديمة يتم التحضير لخروج “الشيشباني”، وهو عبارة عن لباس من ليف النخيل، يرتديه أحد الشباب ليتجول في الشوارع ومعه مرافقوه الذين يحملون عصيا ودبابيس لحمايته، حتى إذا توقف أمام دكان أو متجر شرع في الرقص على إيقاع طبلة معه، ولا يتوقفون عن الصياح حتى يدفع صاحب الدكان مبلغا نقديا، أو تتعرض بضاعته للنهب والتخريب. ولا يتوقف الشيشباني عن مضايقاته إلا قبيل المغرب حيث يقتسم مع مرافقيه غنيمة عاشوراء.
من الصوم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى إظهار السرور بالمزامير و”الطعارج”، سَرت في الأمة بدعة أندلسية، سعى من خلالها بنو أمية إلى التشفي ممن يّدعون الانتساب لآل البيت وإغاظتهم. وعنهم أخذ المغاربة طقوس الاحتفال، رغم التنبيه عليها من لدن علماء المغرب كالمؤرخ الإيفراني المراكشي، ومزجوا بها موروثا يهوديا لإذكاء بهجة سمتها التعدد والتسامح، وتأكيد التجاور بين الشرائع المختلفة.
نحن أولى بموسى منكم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور. وهو تنبيه إلى رسالتين حري بنا أن نتفطن لما وراءهما من مغزى ودلالة، خاصة في هذا الظرف العصيب الذي يمتحن إيمان المرء ودفاعه عن مقدساته.
الرسالة الأولى هي أن الله تعالى ينتصر للمستضعفين من أهله، مثلما انتصر لموسى عليه السلام ومن معه. ويجازي الطغاة المعتدين خزيا وسوء عاقبة، كما أغرق فرعون وجنوده في اليم.
وأما الرسالة الثانية فهي التأكيد على استقلال أمتنا، وتميزها عن غيرها في هويتها وشعائرها، وأن قبول العيش المشترك لا يعني الذوبان في فكر الآخر وقيمه!