رسائل تربوية.. قصة الشيخ البشير عصام مع والده -رحمه الله-
هوية بريس – د.البشير عصام المراكشي
ذكرتني أجواءُ عيد الأضحى والباكالوريا ببعض أيام عام 1409 (1989م)، وقد اجتمع العيد ببدايات الصيف بعد أكثر من ثلاثين سنة، وهي ذكرى ألحت علي ولم أستطع منها فكاكا..
نجحتُ في الباكالوريا بشعبة العلوم الرياضية بتفوق، واستدعاني مدير أكاديمية مراكش ضمن المتفوقين في المدينة واحتفى بي، وأذكر جيدا أنه أثنى على والدي – رحمه الله – لاعتنائه بتمدرس أولاده، وكان مما قاله عنهم لأحد مرافقيه بالفرنسية:
“ce sont tous des lumières!”
ثم خيّرني بين أمرين: أن يعطوني جائزة الأكاديمية، أو أن أذهب إلى العاصمة الرباط للمشاركة في مسابقة في الرياضيات بين التلاميذ الأوائل من المغرب كله، وهي مسابقة ينظمها القصر الملكي.
اخترت الثاني لرغبتي في التحدي، وحين رجعت إلى البيت وأخبرت والديّ، بادر والدِي – رحمه الله – إلى الموافقة، ولكن بصيغة شعرت من خلالها أن ذلك السفر كان صعبا عليه من الناحية المادية (ظروف العيد، والوالد معلم متقاعد!)، ولكنه لم يكن ليفرّط في شيء يفرح ابنه أو يفتح له مجالات التفوق!
قرر الوالد أن نذهب في القطار الليلي من مراكش إلى الرباط – مع وقفة من نحو ساعة واحدة في الدار البيضاء. لكن حين ذهبنا إلى المحطة فوجئنا بزحام عجيب على شباك التذاكر، لم أر له مثيلا في حياتي كلها!
فكر الوالد -رحمه الله وأكرم نزله- فقرر أن نركب في القطار مباشرة، ونأخذ التذكرة من داخله ولو مع الزيادة في الثمن.
ركبنا ففوجئنا مرة أخرى بزحام لا يطاق!
جرني الوالد إلى الدرجة الأولى، فوجدنا فيها مكانين ارتمينا فيهما، وجلسنا ننتظر مراقب التذاكر.
بعد دقائق، جاء المراقب وطلب ثمن التذكرتين، وكان مبلغا كبيرا جدا، علمت فيما بعد أنه سيأتي على جل ما في جيب والدي.
نسيت أشياء كثيرة في حياتي، ولكنني لست أنسى حركات والدي في تلك اللحظة وهو ينقد المراقب ذلك المبلغ. حركات جمعت بين القلق وعزة النفس والتوكل على الله.
وفي ضمن ذلك كله، لم ينبس ببنت شفة..
لم يتذمر، لم يشكُ لي ولا لغيري، لم يشعرني بأن سفري هذا عبء ثقيل على كتفيه!
في الصباح، ذهبنا لمركز الامتحان (ثانوية مولاي يوسف)، ودخلت لاجتياز المسابقة (والتي لم تخرج نتائجها قط لسبب لا أعلمه)، فيما بقي والدي طيلة الوقت بين مسجد السنّة والحديقة المنبسطة أمامه.
بعد الامتحان، طلب منا المسؤولون البقاء داخل المركز لانتظار شيء ما!
وبعد مدة يسيرة، رأينا رجالا يدخلون وهم يحملون أكياسا كبيرة، فهمت فيما بعد أنها أموال من القصر الملكي، ستهدى للمشاركين في المسابقة. نودي علينا الواحد تلو الآخر، وكان أحدهم يملأ لكل مشارك مظروفا بمبلغ مالي (لعله 300 أو 500 درهم – لا أذكر جيدا) ويمنحه إياه.
خرجت إلى والدي وسلمته الظرف. ومرة أخرى لست أنسى موقفه: فرح وعزة نفس وحمدٌ لله. ومرة أخرى: دون كثير كلام..
أشارككم هذه القصة، لعلكم تجدون فيها عبرة أو فائدة، ولعلكم تترحمون معي على والدي الحبيب..
رحمك الله يا أبت..