رسالة العلماء.. 3- علاقة العلماء بالأمراء
هوية بريس – د. أحمد الريسوني
بينتُ في الحلقتين السابقتين المكانة العظمى للعلماء في المجتمع الإسلامي، وبينتُ مسؤوليتهم القيادية المشتركة مع الأمراء وأهل الحكم، وأن الطائفتين معاً تشكلان المنبع الأول لصلاح أحوال الأمة أو فسادها، وأن صلاح إحدى الطائفتين يقوي صلاح الأخرى ويحفظه، وأن فساد إحداهما يستدعي فساد الأخرى ويعين عليه… فالفساد مرض معدٍ، كما هو معلوم ومشاهد.
وقد وردت عدة أحاديث وآثار في شأن العلاقة بين العلماء والأمراء، وما ينبغي أن يكون فيها، وما ينبغي ألا يكون.
كما اهتم العلماء قديما وحديثا بهذه العلاقة وأحكامها وآدابها..
مسألة الدخول على السلاطين والأمراء ومخالطتهم
هذه مسألة شغلت علماءنا كثيرا، منذ عصر الصحابة والتابعين.. وقد احتدم الخلاف فيها واحتد النقاش حولها، خاصة بعد أن كثر الحديث عن الحكام الظلمة وأمراء الجور..
والسؤال فيها هو:
– هل دخول العلماء إلى قصور هؤلاء الأمراء ومَـجالسهم، هو مجرد فتنة ومذلة للعلم والعلماء، وخدمةٍ رخيصةٍ للحكام الظالمين؟ وهو ما نُـقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ولا دين له. قيل له: ولـمَ؟ قال: لأنه يرضيه بسخط الله”.
– أم أن من حق العالم – ومن واجبه – أن يدخل عليهم وينصحهم، ويتعاون معهم، ويعطيهم مما عنده، وينال هو أيضا مما عندهم، كما ورد عن الإمام مالك أنه قيل له: إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون! فقال: «يرحمك الله، فأين التكلم بالحق؟».
ومن العلماء الذين بالغوا في العناية بمسألة التعامل مع السلاطين والولاة، وتشددوا فيها: الإمام أبو حامد الغزالي. وقد كتب في (الإحياء) بابا مطولا: “فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم، وحُكم غشيانِ مجالسهم والدخولِ عليهم والإكرامِ لهم”، قال في أوله:
“اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال:
– الحالة الأولى، وهي شرها: أن تدخل عليهم،
– والثانية، وهي دونها: أن يدخلوا عليك،
– والثالثة، وهي الأسلم: أن تعتزل عنهم، فلا تراهم ولا يرونك…”.
وأنقل فيما يلي واقعة نموذجية حية، تظهر وتوضح الخلاف القديم الذي كان قائما -ولا يزا – حول دخول العلماء على الأمراء، وغشيانِـهِم قصورَهم ومجالسَهم… وقد أوردها القاضي عياض في ترجمته لأبي بكر الباقلاني، إمامِ الأشاعرة ولسان أهل السنة:
“قال أبو عبد الله الأزدي، وغيره: كان الملك عضدُ الدولة فَـنَّاخُسرو بن بُويه الديلمي، يحب العلم والعلماء. وكان مجلسه يحتوي منهم على عدد عظيم في كل فن، وأكثرهم الفقهاء والمتكلمون. وكان يعقد لهم للمناظرة مجالس. وكان قاضي قضاته، بِشرُ بن الحسين، معتزلياً. فقال له عضد الدولة يوماً: هذا المجلس عامر بالعلماء، إلا أني لا أرى فيه عاقداً من أهل الإثبات -يعني مذهبهم- والحديث يناظر؟ فقال له قاضيه: إنما هم عامة، أصحاب تقليد ورواية، يروون الخبر وضده، ويعتقدونهما جميعاً. ولا أعرف منهم أحداً يقوم بهذا الأمر، وإنما أراد ذمّ القوم، ثم أقبل يمدح المعتزلة. فقال له عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصرٍ، فانظر أي موضع فيه مناظر، يكتب فيه فيُجلب. فلما عزم عليه قال القاضي: أخبروني أن بالبصرة شيخاً وشاباً، الشيخ يعرف بأبي الحسن الباهلي -وفي رواية بأبي بكر بن مجاهد- والشاب يعرف بابن الباقلاني. فكتب الملك من حضرته يومئذ يشير إلى عامل البصرة، ليبعثهما. وأطلق مالاً لنفقتهما من طيب ماله. فلما وصل الكتاب إليهما، قال الشيخ وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة فسقة -لأن الديلم كانوا روافض- لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله، لنهضت. قال القاضي (يقصد الباقلاني): فقلت له: هكذا قال ابن كلاب والمحاسبي، ومن في عصرهم: إن المأمون فاسق، لا نحضر مجلسه، حتى سيق أحمد بن حنبل إلى طرسوس، وجرى عليه بعده ما عُرف. ولو ناظروه لكفُّوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ما هم عليه بالحجة. وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم، حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا بخلق القرآن، ونفي الرواية؟ وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال الشيخ: أما إذا شرح الله صدرك لهذا، فاخرج…”.
فهاهنا رأيان وتقديران مختلفان في المسألة:
– الأول: يمثله الشيخ الجليل أبو الحسن الباهلي، وآخرون قبله. ويرى أصحابه أن هؤلاء الحكام فسقة فاسدون، ولا يريدون بدعوة العلماء وتقريبهم إلا الدعاية لأنفسهم وتعزيزَ مشروعيتهم وتحسينَ صورتهم…
– الثاني: يمثله تلميذه أبو بكر الباقلاني، ويتبنى مبدأ الحضور الفاعل والمشاركة الإيجابية والتدافع مع المذاهب والأفكار المخالفة، وأن ذلك له أثره وفائدته الملموسة، بخلاف سياسة المقعد الفارغ، التي لا تأتي بشيء، ولا تزيد الطين إلا بلة.
وبقي مسلك ثالث ليس واردا في هذه الواقعة، هو مسلك طائفة من “العلماء”؛ لا هم يعتزلون هربا من الفساد والمفسدين، ولا هم يحضرون لأجل نصرة الحق ومدافعة الباطل. بل يحضرون ويتهافتون، ويبذلون التملق والتزلف، لأجل مكاسبهم ومناصبهم…
ولا شك أن هذا هو أسوأ الخيارات، وأبعدها عن مقام العلم والعلماء. وسأعود إليه في الحلقة القادمة إن شاء الله عز وجل.
مسألة نصيحة العلماء للأمراء
ما زال الدفاع مستميتا عند بعض العلماء، حول تقديم النصيحة لولي الأمر، وأنها يجب أن تكون سرا بينك وبينه، وأن الجهر بها فتنة ورياء وسوء أدب…
وما زال دعاة النصيحة السرية يعكفون على صورة واحدة، ساكنة لا تتغير ولا تتحرك، يحبسون عندها أنفسهم وأنفاسهم، وهي الواردة في حديث ضعيف يقول: “من أراد أن ينصح لسلطان بأمر، فلا يُـبدِ له علانية، ولكن ليأخذْ بيده فيخلو به”. وبناء عليه وعلى فهمهم له، فليس على العلماء إلا أن ينتظروا فرصة لقاء السلطان: في المسجد، أو في السوق، أو في المطار، لكي يأخذ أحدُهم بيده ويخلو به وينصحه… فمَن تأتَّى له ذلك فقد أدى الذي عليه، ومن لم يتأت له ذلك، فقد كفى الله المؤمنين القتال.
اقرأ أيضا: رسالة العلماء ج2.. حالة الأمة بين العلماء والأمراء
علاقة العلماء بالأمراء في الواقع المعاصر
الحديث عن العلاقات واللقاءات المباشرة بين أشخاص العلماء والفقهاء، وأشخاص السلاطين والأمراء، أصبح اليوم تقريبا غير ذي موضوع. فالسائد اليوم -وإن لم يكن وليدَ اليوم- هو علاقة أشخاص بمؤسسات، أو علاقة مؤسسات بمؤسسات. فقد تكون العلاقة الشخصية منعدمة أو شبه منعدمة، ولكن العلاقة مع المؤسسات، أو بين المؤسسات، أو عبر المؤسسات، تكون على أشدها وفي أقصى درجاتها.
فوليُّ الأمر، أو الأمير، أصبح اليوم يعبر عنه بالدولة، أو الحكومة، ويتجسد في شبكة من مؤسسات الدولة وأجهزتها، المركزيةِ والمحلية، وهي بالمئات أو بالآلاف. ويتجسد وليُّ الأمر كذلك في مناصب عديدةٍ ذاتَ صلاحيات مختلفة. والمنصب تجد فيه اليوم فلانا، وغدا تجد فيه فلانا آخر. ولكن المنصب هو المنصب.
فالعالِـم -وغيره- إنما يتعامل اليوم مع هذا الواقع؛ يتعامل مع دولة ممثلة في “نظام حاكم”، وفي مؤسسة حكومية، وفي سياسات وقوانين، ومجسدة في منصب وزير، أو مستشار، أو مدير، أو رئيس، أو محافظ، أو عميد، أو ضابط…
اليوم، حين نتساءل ونتباحث ونتناقش في مسألة العلاقة بين العالم والحاكم، يجب أن نستحضر هذا الواقع الجديد، لا أن نستحضر علاقات وروابط ثنائية للشيخ الفلاني بالأمير الفلاني، أو علاقةً لصاحب فضيلة أو سماحة، مع صاحب فخامة أو جلالة، ولا علاقةَ السلطان الفلاني بالعلماء وأرباب المحابر والعمائم. فهذه الأنماط أصبحت متلاشية متوارية.
لا نجد اليوم حاكما يزور عالما، أو يدعوه إليه، ثم يقول له: حدثني، أو عِظني، أو كيف تراني؟
ولا نجد أمراء أو سلاطين يفتحون أبواب قصورهم للعلماء والمفكرين، ويدعونهم فرادى وجماعات، للمناظرة العلمية، أو للمشاورة السياسية، أو لطلب فتاوى فقهية.
نعم قد يدعونهم اليوم لأغراض دعائية أمام الكاميرات ولبضع لحظات، وحتى هذا قلما يفعلونه. ومنهم من لا يفعله أبدا.
وقبل سنوات حدثني أحد العلماء الفضلاء أن هيئة كبار العلماء عندهم، طلبت لقاء مع رئيس الدولة منذ توليه منصبه، ولم يستجب لهم إلى أن مات. فهذا عن “كبار العلماء”، وعن هيأتهم وجماعتهم، فكيف بغير كبارهم؟ وكيف بأفرادهم؟ ومع ذلك نجد في هذا البلد نفسه من ألف كتابا حافلا سماه (قطع المراء في حكم الدخول على الأمراء)، حشد فيه كل ما أمكنه جمعُه من نصوص وأقاويل واستنباطات وردود، ليثبت بذلك كله جواز الدخول على الأمراء…
فالدخول على السلاطين والأمراء، أصبح اليوم دخولا إلى مؤسسات الدولة. والعلاقة اليوم هي علاقة مع الدولة ومؤسساتها ومشاريعها. والنقد والنصيحة اليوم لا يتوجهان بالضرورة إلى السلطان والأمير، بل يتوجهان إلى كيانات معنوية ومؤسسات جماعية وأشخاص غير معينين. وأداءُ واجب النقد والنصح والتعبير والبيان، أصبح له ألف طريق وطريق.
وفي ظل هذا التغير والتنوع، يبقى الثابت في حق العالم، هو أن يكون حاضرا غير غائب ولا مغيب، وأن يكون فاعلا مرفوعا، لا مجرورا ولا حرفَ جر. وأن يكون ناصحا أمينا لولاة الأمور ومؤسساتهم ومشاريعهم، سواء كان قريبا منهم أو بعيدا عنهم، وسواء كان معهم في حالة وئام أو حالة صدام. واجبه: أن يبين ولا يكتم، وأن يوضح ولا يُـبهم، وأن يقول الحق لا يخاف في الله لومة لائم.
حفظكم الله و زادكم حكمة و علم ..