رعاية الأخوة الإيمانية والسلامة في الدين أولى من الحرص على عمل مشترك
هوية بريس – نور الدين درواش
تعلمت من خلال تجربتي المتواضعة أنه لا يستقيم العمل الجماعي الخيري أو الدعوي إلا بائتلاف القلوب، وانسجام الطبائع ولا ينبغي إقامة مشروع دعوي أو خيري بين أناس غير منسجمين، لأن هذا قد يكون أكبر عامل من عوامل هدم العمل وإفساده وفشله، أو إعاقة تقدمه ونجاحه على أقل تقدير.
وعدم الانسجام ليس بالضرورة عيبا ولا نقصا في الطرفين ولا في أحدهما، بل قد يكون مرده لاختلاف طبيعة الشخصيات كعدم القدرة على الانصهار في فريق العمل، أو الميل إلى العمل الفردي الذي يحتاج صاحبه للتنازل عن اختياراته الشخصية المعارضة للاختيار العام…
وفي هذه الحالة من عدم الانسجام والتآلف قد يتحول الهم من الهدف الذي لأجله أُسس العمل إلى التطاحن والتجاذب والصراع الذي قد يُحول العمل المشترك في ظل عدم التفاهم إلى حلبة للظلم والعدوان والشحناء والبغضاء وسوء الظن والتقاذف والغيبة والنميمة بين أناس كان الدافع لهم للعمل الحرص على كسب الأجر وخدمة الخير والعمل لله والدار الآخرة…
وفي هذه الحال ربما كان الأسلم الافتراق في العمل مع حفظ الأخوة الإيمانية والمودة الإسلامية ليؤسس كل طرف عملا مع فريق يميل لطبعه وطريقة تفكيره وتدبيره.
ومما يشهد لهذا الأمر حديث جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اقْرَءُوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ ) رواه البخاري (5060) ومسلم (2667).
قال الإمام النووي رحمه الله: “الأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز ، أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز ، كاختلاف في نفس القرآن ، أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد ، أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار ونحو ذلك…” شرح صحيح مسلم 16/218.
وأقوى منه في هذه الدلالة -والله أعلم- قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ #يَخَافَا_أَلَّايُقِيمَا_حُدُودَ_اللَّهِ فَإِنْ #خِفْتُمْ_أَلَّا_يُقِيمَا_حُدُودَ_اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا #إِنْ_ظَنَّا_أَنْ_يُقِيمَا_حُدُودَ_اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
فقد بين الله عز وجل أن من أسباب تشريع الطلاق والخلع خوف الزوجين أو أحدهما بأن لا يقيما حدود الله بينهما بسبب كره أو تنافر أو اختلاف طبع أ، أو ما شابه…
وعلق الرجوع بعقد جديد لمن طلقها المرة الثالثة ثم تزوجها غيره وطلقها بأن يغلب على ظنهما أن يقيما حدود الله في العشرة بينهما وإلا لم يستحب الرجوع..
قال السعدي رحمه الله ” ولكن يشترط في التراجع أن يظنا { أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } بأن يقوم كل منهما، بحق صاحبه، وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق، وعزما أن يبدلاها بعشرة حسنة، فهنا لا جناح عليهما في التراجع. ومفهوم الآية الكريمة، أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله، بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية، والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا، لأن جميع الأمور إن لم يقم فيها أمر الله، ويسلك بها طاعته، لم يحل الإقدام عليها”.
فإذا كان الاستمرار في عقد الزواج على عظم قدر ميثاقه مكروها والإقدام على الطلاق مندوبا إليه عند عدم القدرة على إقامة حدود الله بين الزوجين فكيف بالعمل الجماعي الخيري أو الدعوي الذي لم يقيد الله فيه أحدا بأحد بعينه، ولم يربط فيه شخصا بطائفة من الناس بذاتها… فمجالات الخير كثيرة وأرض الله واسعة والسلامة لا يعدلها شيء، والحفاظ على سلامة القلب وصفاء الأخوة كنز لا يقدر بثمن.
ولا أقصد بما سبق من قريب ولا بعيد الخصومات والانشقاقات السياسية ولا الاختلافات التي مردها لاختلاف طارئ في المعتقد والمنهج…