رقية مصروع بالشبهات

20 أغسطس 2023 12:21
بيان تلبيس متهم الصحابة بالتدليس

هوية بريس – ميمون نكاز

اتصل بي ليلا يسألني عن حديث النهي عن كتابة غير القرآن ومحو ما عداه، وقال: أستأذنك في تشغيل مكبر الصوت ليسمع من معي، فهمت من خلال طريقة طرحه للسؤال ومن سياق كلامه أنه مصروع بعفاريت التشكيك في السنة والحديث…

قلت للسائل: هذا حديث؟ قال: نعم، قلت: من أين علمت، وكيف علمت، ومن أنبأك أن هذا حديث؟ أم لعل القرآن هو الذي أنبأك بصحته؟ أم لعلك رأيت النبي صلى الله عيه وسلم في المنام فأخبرك بصحته؟ أم لعلك لقيته في اليقظة -على مذهب مخاريف المتصوفة- فتلقيته عنه بالإسناد الشريف؟

وهو يتابع الإنصات واصلت حزمة الأسئلة: لم لا يكون هذا الحديث -حاشاه- موضوعا ومكذوبا، وضعه خصوم السنة وأعداؤها للتشكيك في السنة؟ من حقنا أن نرده -كما يفعل الأهوائيون والاشتباهيون- – بالذوق العقلي المزاجي في ردهم للحديث والسنة استنادا لهذا الحديث، نرده بذلك انتصارا للسنة “المكتوبة” و”المدونة” لما ورد من أذون نبوية في “الكتابة”…

ثم واصلت قائلا: لماذا حفظ علماء الحديث والسنة هذا الحديث “مكتوبا” في مدونات الحديث والسنة مع أنه “حجة” عليهم؟ ذلك لأنهم بحسب مؤدى الشبهة قد عصوا نهي الرسول وخالفوه، فلم “يكتفوا” بالقرآن، وانتهكوا أمره بمحو غير القرآن فجمعوا ودونوا وصنفوا ولم يمحوه، بما في ذلك كتابتهم وحفظهم لهذا الحديث الناهي عن الكتابة… هل هم حمقى أم مجانين؟ كيف تداعوا إلى مخالفة الحديث وتواطأت الأمة كلها على إمضاء عصيانهم للأمر النبوي؟ بل تعاملت بالاحتفاء العلمي والرضا الديني والقبول الحسن لما قدموا وبذلوا من جهود لحفظ السنة وتدوينها….

هذا الحديث يهدم أصل الاستدلال به عند منكري السنة والمشككين فيها، ذلك لأن في الاستدلال به “دورا” من الناحية المنطقية، ثم هو استدلال بنص حديثي “مكتوب”، فهو مشمول بالنهي عن الكتابة ووجوب محو ما سواه، فكيف يستدل به وهو في وزان النبوة -بزعمهم- في حكم المعدوم بل الإعدام حكمه؟…

لو جئنا بحديث عبد الله بن مسعود من حجة الوداع من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالخيف بمنى: “نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي ، فبلَّغَها ، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منه”، وفي رواية أخرى: ” نضَّر الله امرءًا سمِع مقالَتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه”، حيث الإحالة على “السماع” و”الوعي” و”الحفظ” و”البلاغ” لأداء كلام النبوة( الحديث والسنة)…

لو جئنا بهذا الحديث واكتفينا به للدلالة النبوية على أدوات “السماع” و”الوعي” و”الحفظ” و”البلاغ” مسالك لتوثيق السنة وحفظها، وفهمنا حديث النهي عن “الكتابة” على منارة ذلك، وعززنا ذلك باستلهام ذات المعنى من القرآن نفسه في قوله تعالى:

{وَمَا كُنتَ تَتۡلُوا۟ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَـٰب وَلَا تَخُطُّهُۥ بِیَمِینِكَۖ إِذا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ، بَلۡ هُوَ ءَایَـٰتُۢ بَیِّنَـٰت فِی صُدُورِ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا یَجۡحَدُ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ إِلَّا ٱلظَّـٰلِمُونَ} [العنكبوت49-48]، حيث الإشارة التنبيهية إلى أن الأصل في حفظ القرآن “حفظ الصدور”، وما التوثيق الكتابي للقرآن الكريم نفسه إلا تكملة احترازية مصلحية كما تفيد ذلك النصوص الأثرية في حادثة جمع القرآن الكريم، مع القطع اليقيني بأن الله تعالى هو حافظ كتابه من التبديل والتحريف…

الأصل في حفظ القرآن حفظ الصدور، وما “الكتابة” إلا وسيلة آزرة، قد يقع فيها التحريف والتبديل، ولكن يستحيل أن يقع ذلك في حفظ الصدور التواتري الإجماعي،…

كذلك الأصل الأولي المعول عليه في حفظ السنة “حفظ الصدر”، أي على “السماع” و”الوعي” و”الحفظ” والبلاغ”، وما الكتابة إلا أداة من أدوات الحفظ الداعمة، وليست أصلا أوحد في الحفظ والموثوفية، إذ قد يشوبها ما يشوب السماع والنقل الشفهي من إمكان الزيادة والنقصان والتبديل والتحريف كما هو معلوم من تصحيفات النصوص المكتوبة…

شبهة النهي عن كتابة الحديث واتخاذها مدخلا للتشكيك في “حجية السنة” أو في “موثوقيتها” شبهة واهية داحظة، ويبقى الاستشكال والبحث في المرويات من حيث الثبوت أو عدمه، أو من حيث “الإفادة” و”الدلالة” حقا مشروعا، بشرط استيفاء “شرائط العلم”، أو بشرط السؤال من قبل المفتقر لهذه الشرائط دون بغي منه أو عدوان على العلم بالانحشار في زمرة الخائضين بالجهل في مباحثه وقضاياه دون أهلية موذنة…

تخللت هذا الكلام -أثناء المكالمة- تفريعات وتذييلات لم أذكرها، إذ لم تكن الغاية “كتابة” و”تدوين” كل ما قيل، وإنما ذكر بعض الذي يفيد من جملة “الرقية”، نحسبها كانت “رقية” خفيفة لمصروع عفاريت التشكيك في السنة، نرجو أن تكون له شافية…

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M