سؤال إلى العثماني: إن كان التطبيع قرار دولة فماذا عن مسؤولية رئيس الحكومة ومساءلته؟
هوية بريس – حسن المرابطي
منذ أن استأنف المغرب علاقاته مع “إسرائيل” آواخر سنة 2020 والمغرب يعرف نقاشات سياسية وقانونية حول ذلك؛ غير أن أهم أمر أثار اهتمام المتابعين، أو قل دهشتهم، هو محاولة حزب العدالة والتنمية، ومختلف قياداته، التهرب من مسؤولية تحمل تبعات هذا القرار الذي يوسم إعلاميا ب “التطبيع”، لاسيما القيادي د. سعدالدين العثماني، حيث كان حينئذ يشغل مهمة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية وفي نفس الوقت مهمة رئيس الحكومة، وهو الذي وقع على اتفاقية التطبيع بحضور جلالة الملك محمد السادس يوم الثلاثاء 20 دجنبر؛ ولكن بعيدا عن أي نقاش حول آثار التطبيع وما يشكله من توافق مع توجه المملكة المغربية في سياستها الخارجية من عدمه، فضلا عن رئاسة المملكة للجنة القدس وغيرها من الملفات الأخرى، نود خلال هذه المساهمة إثارة النقاش حول من يتحمل المسؤولية السياسية في اتخاذ القرار استنادا على الدستور الذي يؤطر عمل المؤسسات السياسية في المملكة، وذلك بعيدا عن لغة العواطف والخطاب السياسي، والذي تسلل للأسف إلى مختلف المجالات بما في ذلك أوساط الباحثين الأكاديميين.
قبل بدء النقاش، لابد من التذكير أنه خلال البحث في قضية حساسة ومثار نقاش وتعدد الآراء بحولها، مثل ما عندنا اليوم، يقتضي استبعاد كل الأحكام المسبقة، فضلا عن سعة الصدر التي هي باب الوصول إلى الحقيقة، لأنه في كثير من الأحيان نتبنى ما اشتهر من الآراء بعيدا عن قوة الحجة وسلامة المنهج في نسجها، وكذلك الاستئناس في غالب الأحيان ببعض الآراء لأنها توفر لنا المناخ المناسب للتهرب من أي مسؤولية وإلقائها على الآخر، ما يشعرنا بالراحة المزيفة بعيدا عن أي حقيقة، بينما الأصل تقبل الحقيقة، فرغم مرارتها، تكون أكثر خَلقا للراحة ومحفزا لتجاوز العقبات، بدل الاستسلام لأمر الواقع.
وعليه، فإن قرار التطبيع الذي يصفه العثماني بقرار الدولة، كل مرة يظهر فيها على الشاشات، قد لا يوجد منا من سيختلف معه قيد أنملة في ذلك؛ وأما استمراره الدائم بالتأكيد على أن السياسة الخارجية مجال محفوظ للملك ما هو إلا فعل يقصد منه اعتبار قرار استئناف العلاقات مع “إسرائيل” قرار ملكي فقط، بل يتذرع به ويتخذه سببا للتهرب من المسؤولية السياسية لهذا القرار رغم أنه هو من وقع عليه؛ وقبل الخوض في النقاش بشكل أوسع، لابد من سؤاله عن الدولة التي يقصدها، وما مكوناتها، وكيف تصنع قراراتها ومن يصنعها، سواء التي تهم علاقاتها بالمواطنين أو علاقاتها بالمجتمع الدولي بمختلف منظماته؛ بمعنى آخر، كيف يصور السيد العثماني، وكل من يتبنى موقفه، الدولة وما التعريف الذي يقدمه لها؛ وبعد ذلك، يمكن تحديد المسؤول عن اتخاذ قرار التطبيع أو كل المشاركين والمساهمين فيه؛ وبالتالي، الكشف عن مدى مسؤولية رئيس الحكومة وباقي أعضاء حكومته من عدمها في اتخاذ قرار الدولة في استئناف العلاقات مع “إسرائيل” التي احتلت جزءا من الأراضي الفلسطينية سنة 1948، وما تلاها من التوسع إلى حدود اليوم.
بدون التعمق حول مفهوم الدولة، نكتفي التذكير بأن أهم الأركان التي تقوم عليها الدولة المتفق عليها بين الباحثين هي الإقليم (مساحة أرض) والمواطنون وسلطة سياسية حاكمة والسيادة، وعليه فإن مفهوم الدولة انسحب على المغرب منذ قرون، وهناك من يرجعه إلى ما قبل دولة الأدارسة؛ وبما أن المملكة المغربية تمثل دولة ديموقراطية حديثة يحكمها الدستور؛ وأن السيادة للأمة حسب الفصل الثاني من الدستور، تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها؛ وأن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة (الفصل 6)؛ فيما أن ممثل الدولة الأسمى هو الملك بصفته رئيسا للدولة، ويمارس مهامه بمقتضى ظهائر التي توقع بالعطف من قبل رئيس الحكومة باستثناء عدد محدد بشكل مفصل في الدستور؛ كما أن الحكومة تمارس السلطة التنفيذية بنص الفصل 89، وأنها المسؤولة عن تحديد برنامج عملها (البرنامج الحكومي)، والذي بموجب حصوله على ثقة مجلس النواب تعتبر الحكومة منصبة؛ وهكذا دون التعريج على جميع الاختصاصات والمهام، لاسيما التي تخص البرلمان والذي له الحق الحصري في التشريع؛ فإن السلطة السياسية الحاكمة تتحدد في المغرب، وفق الدستور في كل من الملك والحكومة والبرلمان وغيرها من المؤسسات، لكن دون أن نغفل بأن القرارات التي تتخذ من قبل هذه السلطة السياسية هي قرارات الدولة ولا تخص الجهة التي صدرت منها فقط.
وعليه، قبل أن يعفي العثماني نفسه من المسؤولية السياسية لقرار التطبيع الذي وقعه أو مساءلته، لابد من تذكيره بالدستور الذي يحدد صلاحياته، وما يعنيه التوقيع بالعطف، بعدما كثر النقاش الشعبوي في الآونة الأخيرة؛ وبعد ذلك جاز له التهرب من المسؤولية إن استطاع، ولمن يوافقه بتبرير ما لا يمكن تبريره.
بدون أن نطيل الحديث، فإن الملك يمارس صلاحيته ومهامه بواسطة الظهائر، وفق ما قرره الدستور في الفصلين 41 و42 منه؛ إلا أن كل هذه الظهائر توقع بالعطف من قبل رئيس الحكومة ما عدا صنفين من الظهائر: صنف يهم سير المؤسسات الدستورية والصنف الثاني يتعلق بالاختصاصات التحكيمية للملك؛ وللتذكير، فإن التوقيع بالعطف أو ما يشابهه ليس بدعة تخص المغرب فقط، وإنما هي متعارف عليها دستوريا عند مجموعة من الدول، إلا أن في غيرها من الدول نجد أن الموقع بالعطف يتحمل المسؤولية السياسية كما هو الحال في إسبانيا وبلجيكا، وعندنا يتهربون من ذلك؛ ذلك أن التوقيع بالعطف يمكن أن يتخذ صورتين، ويكون فيه الموقع بالعطف هو المسؤول أو الموقع بالعطف هو المكلف بالتنفيذ؛ حيث الأول يعني أن الشخص هو الذي دافع عن الفكرة وأقنع الآخرين بها، كما بادر وتابع جميع الأطوار إلى حين بلوغه الشكل النهائي، في حين أن التوقيع الثاني يعني أن الشخص هو الموكول إليه صلاحيات اتخاذ الإجراءات والتدابير التنظيمية والإدارية من أجل التطبيق؛ وفي كلا الحالتين، نجد أنه في التجارب الأخرى يتحمل المسؤولية السياسية الموقع، بل حتى في المغرب ذلك ما يقتضيه ظاهر النص وتأويله، لأن الرافض لأي شيء لا يمكن أن يوقع عليه، وإلا التجأ إلى الاستقالة كما يتم في الدول الأخرى.
وبالتالي، فإن ما يجعل رئيس الحكومة ذا صلاحيات كبرى وسلطاته أقوى هي سلطة التوقيع بالعطف عكس ما يريد التسويق له من قبل البعض، ذلك أن التوقيع بالعطف يكرس مشاركة رئيس الحكومة في اتخاذ القرار، وإنما حتى حق الرفض يمكن التعبير عنه بتقديم الاستقالة؛ بل إن تحقيق ملكية دستورية ديموقراطية برلمانية واجتماعية التي نص عليها الفصل الأول من الدستور لسنة 2011 لا يكمن في رفع الشعارات، وإنما في تحمل كل المنتخبين مسؤولياتهم السياسية والكف عن التهرب من المسؤولية بتأويل النصوص الدستورية وتحميلها ما لا تتحمل، حتى أمسى الاختباء وراء الملك فعل شنيعا، وقد سبق لجلالة الملك أن أشار إلى ذلك في خطاب عيد العرش سنة 2017، بالقول أنه “عندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون إلى الواجهة، للاستفادة سياسيا وإعلاميا من المكاسب المحققة، أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه؛”.
وعليه قبل الختم، وبعيدا عن التطرق لجميع التفاصيل المتعلقة بالسلطة السياسية كما هي منصوص عليها في الدستور، فإن قرار استئناف العلاقات مع “إسرائيل” (التطبيع) هو قرار الدولة، ومن الطبيعي جدا أن يخلق النقاش ويُختلف عليه للأسباب المعلومة لدى الكل، إلا أن النظر من الزاوية السياسية قد يكشف يوما ما بعضا من الأسرار التي كانت وراء ذلك القرار، لذا ليس من المنطقي الجزم في إصدار الأحكام تجاه السلطة السياسية الوطنية، بل لابد من إبداء حسن الظن تجاه أبناء وطننا ومن يمثلنا ولو أن السياسة مبنية على سوء الظن في الغالب؛ ولكن في نفس الوقت، لا يمكن بأي حال القبول بشيء غير معقول، مع استحضار أن الفعل السياسي يختلف عن أي فعل آخر، وقد لا يستجيب في كثير من الأحيان للمبادئ والقيم الأخلاقية لما فيه من تدافع وتنافس وصراع لا يُتحكم فيه دائما، أي القبول كرها بنتائجه في أفق تجاوزها مستقبلا؛ ولعل مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية هي أكثر المجالات التي لا تنضبط لأي قانون وقيم إلا لقانون الغلبة والقوة رغم كل الشعارات التي ترفع هنا وهناك.
وختاما نقول للدكتور سعد الدين العثماني، وباقي مناصريه في التهرب من تحمل المسؤولية السياسية لقرار التطبيع، وكذا بعض القرارات السياسية الأخرى، كفى من الخطاب الشعبوي، وتمييع المشهد السياسي أكثر مما هو مميع، لأن المغرب اليوم في أمس الحاجة لرجال الدولة الذين يكونون في مستوى المناصب المكلفين بها، ويقدرون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، بما في ذلك ما يقتضيه التوقيع بالعطف، والاعتراف بالتقصير كما يتم الترويج للنجاح، حتى نؤسس لدولة حديثة ديموقراطية، يدرك فيها المرء المبدأ الدستوري ربط المسؤولية بالمحاسبة، ويطبقه على نفسه قبل غيره، ويعي جيدا أن وصف أي قرار ب”قرار الدولة” لا يعني أبدا خلو رئيس الحكومة من المسؤولية السياسية، وفي المقابل لا يعني بالضرورة مسؤولية الملك، لاسيما أن الملك في التجارب المقارنة لا يخضع لأي مساءلة، وعندنا في المغرب كذلك؛ وإلا جاز توجيه سؤال مفتوح إلى العثماني ونقول: ما فائدة تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات التشريعية إن كان توقيعه لا يمثل نفسه وبالأحرى التعبير عن أصوات الناخبين؟
اللهم ارزقنا المنطق السياسي والعمل به.