سؤال الذكاء الاجتماعي للمغاربة بعد “كورونا”
هوية بريس – الحبيب عكي
في الحقيقة، ما أكثر الذكاءات التي أبان عنها النبوغ المغربي في ملحمته الوطنية ضد جائحة “كورونا”،ذكاءات استراتيجية وتدبيرية،فردية وجماعية جعلته يتفوق في محاربة “كوفيدها 19” المشؤوم،ولأول مرة حتى على أعتى الدول الكبرى من طينة إيطاليا وإسبانيا وأمريكا وأمريكا اللاتينية،وينال على ذلك تنويها من منظمة الصحة العالمية لم ينله كثيرون غيره،إذ سجل حوالي 200 من الوفيات فقط من بين أزيد من 8000 إصابة مؤكدة، بما يعادل أزيد من 84 % من نسبة الشفاء إلى حدود الساعة؟؟. ذكاءات استشفائية.
إذن..سياسية..اجتماعية..صناعية..تضامنية..رقمية..تنظيمية..دينية..جعلتنا نعبر البحر “الكوفيدي” اللجي بأقل الخسائر الممكنة،وجعلتنا نتخلص – وهذا هو الأهم – من العديد من ترهات التخلف المزمن التي كان الجميع يعتقد عمليا ألا ملجأ منها إلا إليها،فأحكمت قبضتها الحديدية القدرية على حياتنا عقودا وعقودا،والقوم لا يكادون ينفكون من دوائرها ومتاهاتها؟؟.
من كان يظن يوما أن المغرب سيقدم بسهولة على غلق حدوده البرية والجوية والبحرية،فأوقف القطار وأغلق المطار،ولم يعر للمصالح الاقتصادية ولا السياسة الدولية كبير اعتبار،بل كان همه الأول حماية المواطن من الأخطار،وكان نعم الاختيار على غيره من الأقطار؟؟. من كان يظن يوما أن يتدفق منسوب كبير من الصدق والثقة والحكامة في خدمة السلطة للمواطن ورعاية المصالح العليا للوطن؟،من كان يحلم يوما أن تتظافر فيه جهود الطب العمومي والطب الخصوصي والطب العسكري،وتسخر فيه كل الطاقات والإمكانيات لمواجهة الجائحة العدو،بل وتتحسن خدمات المستشفيات والمصحات إلى درجة خرافية أصبح فيها النزلاء المبتلون والعاملون المقيمون يتخيرون من وجبات الممون (Traiteur) ما يشاؤون وتلذ به الأعين، وهي أبسط الحقوق والواجبات التي هرمت الأمة من أجلها؟؟.
من كان يتصور إمكانية كل هذه الطفرة الرقمية في زمن قياسي ،وبنفس الإمكانيات اللوجستيكية الهزيلة ونفس الطاقات البشرية غير المؤهلة؟؟،فإذا الأساتذة يتواصلون مع تلاميذهم عن بعد،وإذا بالإدارات تقضي أغراض مرتفقيها رقميا،وتستمر التعلمات والندوات والتكوينات والمسابقات والمحاكمات وغيرها من الخدمات رغم أنف “كوفيد 19″،طفرة ما كان يتحدث بها يوما حتى عباقرة المكونين والمبرمجين ولا خبراء المهندسين والمنظرين،خاصة في ظل برامج رقمنة قطاعية تعثرت أكثر من عقدين من الزمن؟، فإذا بها اليوم تنبعث من الرماد كالعنقاء وتنقد قطاعات ومؤسسات وإدارات ومقاولات،كانت مهددة بالشلل التام في ظل الجائحة،لولا التعليم عن بعد..والقضاء عن بعد..والعمل الإداري عن بعد..والتسويق عن بعد..وغير ذلك مما أعطانا – رغم كلاحة المأساة – وجها رقميا آخر طالما طمحت إليه الأقوام عقودا مضت؟؟.
من كان ينتظر كل هذه الهبة الاجتماعية التضامنية، الفردية والجماعية،الأهلية والرسمية،ونحن الذين ظللنا نجتر العديد من الأزمات الخانقة كالفقر والبطالة والتفكك والهشاشة،وليس لها غير التضامن الاجتماعي بلسم جراح وشفاء أفراح؟؟. من كان ينتظر قاطرة المجتمع المدني أن تستيقظ من مخدر خطير أثر عليها في التنمية حتى النخاع،وأصبحت كل مبادرة مدنية عنده مشروطة بما يحصله ورائها من دعم مالي وطني أو يعبؤه من رأسمال أجنبي،فإذا به اليوم وكأن الجائحة قد أيقظته من شروده و قذفت به في السكة الصحيحة وأصبح يقود اليوم عشرات المبادرات الاجتماعية والخدمات التضامنية دون فلس واحد لا من قطاع حكومي داخلي ولا رأسمال منظمة وأجندة أجنبية؟؟،وكذلك تحررت الدولة من كذا سياسات ومساعدات،بصندوقها “1919” للمساهمة في التضامن و رقمها “1212” للاستفادة منه؟؟.
هذه ذكاءات اجتماعية كلها مسعفة،بانية وناهضة،نمت بعض فسائلها خلال جائحة “كورونا” وفظاعتها،ولكن كيف بنا إلى رعايتها واستدامتها بعد الأزمة حتى نحمي الوطن والمواطن من النكوص وعودة حليمة إلى عادتها القديمة؟،ومساهمة من أجل ذلك نورد هذه المقترحات:
1- هذه الذكاءات قوتها في منافعها والحاجة إلى استدامتها.
2- هذه الذكاءات هي إبداع وطني أصيل وليست مستوردة،بما يعني أن في تراثنا كثير مما نحتاج،وما يعني أنه مهما صبغنا حياتنا المعاصرة بأصباغ الآخرين،فيوم الجد والشدة نعود إلى أصباغنا وأصلنا ولا يصح إلا الصحيح؟؟.
3- حان الوقت – كما يقال – للكف عن سياسة “القفة والقوالب” وتعويض ذلك بتشجيع الإنتاج الوطني،يحرك الناس للعمل والاعتماد على أنفسهم،وتشجيع مبادراتهم بدعم الإقبال الجماعي على منتجاتهم والاستهلاك الوطني؟؟.
4- التعجيل بإخراج السجل الاجتماعي للمواطن،وهيكلة القطاع غير المهيكل(80%)،حتى تسهل وتستقيم عملية استفادة الجميع من حظه من الثروة الوطنية بشكل عصري نزيه وشفاف،خاصة في مناطق الهشاشة في الحواضر والبوادي والجبال التي يصعب إليها الوصول؟؟.
5- تحمل القطاعات الحكومية مسؤوليتها في الحفاظ على المكتسبات وتحقيق الانتظارات،وفي هذا الصدد يعجبني قرار وزارة الشؤون الاجتماعية القاضي بعزم استمرارها في خدماتها حتى ما بعد “كورونا”،لصالح ما طهرت منه الشوارع والمحطات من الأطفال والمشردين ؟؟.
6- هذا وقد أظهرت الجائحة إن هناك طاقات وكفاءات بالآلاف والملايين،قد امتطوا صهوة العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي للمشاركة في كل شيء،فعلى من يهمهم الأمر تيسير أمر مشاركتهم عبر قوانين ميسرة وهيئات ذات مصداقية وسياسات ذات معنى ومردودية،بدل كياسات اللهو والعبث وقوانين الضبط الأمني وقمع الحريات و وأد المبادرات،كما أن على هؤلاء المهووسون بالمشاركة والتعبير ولوج أبوابهما المنتجة و المسؤولة؟؟
لابد من المبادرة قبل فوات الأوان،فلا نريد جائحة أخرى تحرمنا من أحبابنا ومساجدنا ومدارسنا وملاعبنا وأعمالنا وأسفارنا وأعيادنا ..حتى نتأكد مرة أخرى أنه بإمكاننا أن نعيش في الدين والدنيا أفضل مما كان؟؟