سب الدين.. وملتمس إلى الملك محمد الخامس
هوية بريس – نور الدين درواش
من أعظم الذنوب المنتشرة اليوم في أحاديث الناس وخصوماتهم ومزاحهم ونزاعهم؛ الجرأة على سَبِّ الدين ولعنه، فلا يتورع الواحد عند أتفه الأسباب أن يسب دين خصمه أو دين أمه أو أبيه، وهي عادة قبيحة وخبيثة لا ندري كيف تسربت وفشت في بلاد المسلمين حتى صار دين الله أهون ما يُتَجَرَّأ عليه وأسرع ما يُتلفظ بالسوء تجاهه.
وقد تكلم عن هذه العادة القبيحة العلامة المالكي المراكشي ابن المؤقت -المتوفى سنة 1949م- في كتابه “الجيوش الجرارة في كشف الغطاء عن حقائق القوة الجبارة“-المطبوع سنة 1938م-[ص:88، وما بعدها] فقال:
“تفشت في الطبقات الجاهلة عادة سب الدين،، وانتشرت انتشارا مروعا قبيحا يُنذر بسخط الله وغضبه، وأصبحنا لا نرى بلدا من بلاد المسلمين يخلو من أولئك الدهماء الذين يحلو لهم إطلاق ألسنتهم في معرض النزاع أو المزاح بشتم الدين ولعنه، وسب المذاهب والمِلَّة، و سرى هذا الداء الوبيل حتى في الأطفال والمراهقين، قد تتأثر إلى حد بعيد إذا سمعت بأذنيك اثنين من المسلمين يَسُبَّان دينهما عند حصول نزاع بينهما أو مزاح، وقد يتَصَدَّع قلبك ويتمزق كبدك، وتنكمش أسارير وجهك تألما وغيظا وغيرة على دين أبلى فيه سلفنا الصالح بلاء حسنا، وضحوا فيه بأموالهم وأنفسهم حتى خلفوه لنا تراثا خالدا ومجدا تليدا فلم نعمل بمقتضاه، ولم نحافظ عليه، بل تهاوَنَّا فيه حتى أقدمنا أخيرا على سبه وشتمه.”
يا لها من مقارنة جميلة عقدها الشيخ رحمه الله بين حسن بلاء السلف خدمة للدين ونصرة له وذَودًا عنه، وتضحية بالغالي والنفيس والمال والنفس، وبين سوء تهاون الخلوف الفاسدة في ذلك، وليس التهاون فقط بل التجرؤ عليهبالسب واللعن والشتم،
ثم بين رحمه عجزه عن تغيير هذا المنكر الشنيع بالشكل الذي يجتثه من جذوره فقال:”وقد تتأثر إذا كنت قوي الإيمان رقيق القلب شديد الغيرة، ولكن ماذا يُجدي تأثرك وماذا يفيد تألمك وأنت واحد بجانب ألوف ضَعُفت عقائدهم، وانحطت أخلاقهم ووهن إيمانهم فسلطوا ألسنتهم البذيئة على الدين تشتمه، والملة تسبها”
وبعد ذلك رفع ملتمسا إلى الملك السلطان محمد الخامس _رحمه الله وطيب ثراه- ؛ كي يأخذ علي أيدي هؤلاء المتطاولين فقال: “وفي يقيني ويقين كل مسلم أن هذه العادة المزرية التي نالت قسطا وافرا من الذيوع يجب أن يلتفت إليها أميرنا المحبوب الأعظم حفظه الله بعين الاهتمام والعناية غيرة على دينه الذي اعتبره رسميا له، وسب شخص دين شخص آخر معناه صراحة سب الدين الذي رضيه سلطاننا المحبوب المفدى شعارا فهو في الحقيقة سبٌ له، فكان الواجب عليه أن يضرب بيد من حديد كلَّ من يَسُب الدين أو يسجنه زمنا طويلا زجرا لأمثاله، وليكن هذا قانونا تتمشى عليه أحكام الولاة في الإيالة الشريفة (أي المملكة المغربية) وكل من لم يعمل بمقتضاه سلك في زمرة العمال المتعطلين.
وبهذا يتهيب السابون من العقاب، فيخففون من هذه العادة القبيحة حتى تتلاشى تدريجا، أما تركهم على عادتهم الملعونة بحيث يسب الواحد منهم دين الآخر ولا يعاقب ولا يزجر كما فعل (سكيرج)([1]) المذكور فذلك ما يدعو إلى استفحال الشر، وخطر المصيبة، وفداحة البلاء.
وإني أخشى إن لم يكن عقاب ولا زجر فادح أن تنتشر هذه العادة السيئة انتشار السم في العروق حتى تقضي أخيرا على نور القلوب فيحل محله ظلم الارتداد.”
وقد حصل مع الأسف ما خشيه هذا العالم الناصح والعَلَم الصادق، وأكثر….
فالله المستعان !!!
ثم استطرد رحمه الله مبينا الحكم الشرعي لساب الدين عند علماء الإسلام عامة والمالكية على وجه الخصوص، فقال:”وجاء في فتاوى الشيخ محمد عليش ما نصه: ما قولكم في رجل لعن دينه آخر، وفي آخر لعن مذهبه، وفي آخر قال له يلعن مذهبك مذهب القطط، هل يرتدون؟ أفيدوا الجواب.
فأجبت بما نصه: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله. نعم قد ارتدوا بذلك واستحقوا القتل إن لم يتوبوا اتفاقا لأن سب الدين أو المذهب لا يقع إلا من كافر، ولأنه أشد من الاستخفاف به الموجب للكفر اهـ.
ثم قال ابن المؤقت رحمه الله تعليقا: “من لهؤلاء الطائشين …؟؟
وقول الشيخ [والكلام لابن المؤقت تعليقا على كلام الشيخ محمد عليش]”إن لم يتوبوا” إلخ أما توبة هؤلاء الأوباش فلا تعتبر شرعا ولا قانونا ولا عرفا، لجهلهم بمعنى التوبة، وكيف يعرفون المراد منها وهم أجهل خلق الله حتى ببعض مصالحهم البدنية فضلا عن ضروريات دينهم.
وبالطبع إذا قيل لأحدهم بعد قيام الحجة عليه أتتوب من هذه الزلقة؟ كما فعل القاضي سكيرج يقول: نعم.
وما أبرد هذه الإشارة على قلبه الذي ينسلخ بها من موبقات تلك الشدة.
إذن لابد من مقابلتهم بالعقاب الشديد إما بالضرب أو السجن أو النفي؛ لأن الذي يسبون الدين هم من أولئك الجهلاء السفلة الذين لا يردعهم نصح الناصحين، ولا يخوفهم بطش الله الأخروي ولا يرهبهم إنذار بعذاب الله، ولا يحسبون لشيء حسبانا ما دام خلوا من التنكيل الجسماني المادي.
يدلك على هذا أن الواحد منهم لا يجرأ على سب الملك خوفا من أن يصل إليه الخبر فيقتص منه في حين أنه يجرأ على سب الدين مرات كل يوم بلا وازع ولا خوف.”
ثم كرر رحمه الله ملتمسه للملك محمد الخامس رحمه الله فقال: “والمرجو من أميرنا المحبوب الذي أمكننا بوجوده أن نصدع بالحق وننصر الحق ونحارب جيوش الباطل أينما كانوا، حفظه الله وأعانه على مصالح الدين، أن يأمر بالقبض على كل باغ فاسد اللسان، يعتدي على دين الله الحنيف بالشتم والسب ليأخذ جزاءه الصارم، ويلقى عقوبته الرادعة له ولأمثاله المجرمين، وما ذلك عليه بعزيز” اهـــ.
وفي الختام نرجو من كل من كانت له ولاية أو منصب أو جاه أو سلطان… وأمكنه أن يتعامل مع هذه العادة القبيحة اليوم بما تستحقه من الردع والعقاب حماية للدين وحفظا للملة ومنعا للجهال من المساس بهما، أن لا يتوان في ذلك غيرة لله وذبا عن دينه ودفاعا عن الإسلام الذي نفخر به جميعا دينا رسميا لبلدنا المغرب،كما نرجو من كل غيور السعي لسن قانون يجرم هذا الفعل الشنيع ويغلظ العقوبة لفاعليه والعمل على تفعيله لعلنا نقضي على هذه العادة السيئة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])سنبين قصته في مقالة تابعة بحول الله، اعتمادا على ما كتبه العلامة ابن المؤقت رحمه الله.