كثيرا ما سمعنا وكنا نسمع بصيغة التمريض “قيل” جملة أوعبارة حسبناها ونحن نعيش ذروة التشوف والتشوق لما قد يحمله المستقبل من ترادف حقوق، ومكتسبات تحملها المشاريع السياسية للحكومات المتعاقبة، تلك هي العبارة أو الجملة الحقوقية:”قبل أن نطالب الناس بواجباتهم علينا أن نمكنهم قبل كل شيء من حقوقهم”.
وليس من قبيل الارتجال في شيء أوحتى العفوية أن يعيد صانع هذه الجملة ولائكها كلمة “القبل” مرتين في جملة مكتنزة المعنى مبتسرة المبنى، ولا شك أن هذا من قبيل العزف السياسي الذي دأب أن يدندن بسمفونية الحقوق التي تطرب له الغرائز البشرية وتتراقص وتنقاد لها النواصي وتنحني لها الهامات، ولا شك أن الاستماع لهذا اللحن المنغوم تستطيبه الغرائز في تفوق مطالب الجسد على حساب مبتغيات الروح.
إذ لا تزال الغرائز يجذبها ذوق الاسترسال في الحكاية والحديث الطويل عن مطالبها ومتغول حقوقها، وليس ثمة من يعرف هذه الحقيقة ويهتبل فصول مسرحيتها كجوقة السياسيين والعاملين في حقول السياسة وسفسفطةالاجتماع عموما.
وكل هذا لا يبعد أصبع الاتهام على حمى هذا الاسترسال، وأنه استرسال مخل متحلل من توازن الكلام عن الواجب وأدبيات الالتزام المسؤول بعراه، لقد كنا حتى الماضي القريب ننبهر كل الانبهار، بل نفتتن حد الانبطاح لكل خطاب سياسي يعمد فيه ومن خلاله أصحابه من الزعامات السياسية المحلية إلى تشنيف آذان المواطنة بأجندات الحقوق وقوائم المطالب وسخاء المتطلبات، دون أدنى ضمانات يمكن أن تحفظ للمواطنين بقاء عصمة المتابعة والمحاسبة عند أي تفريط أو إخلال، أو إسقاط لشرط من شروط التعاقد الشرفي الذي جمع آذان المواطنين بأفمام السياسيين دون أفئدتهم، ولم يوثق على وفق معهود ما جرت به قواعد التعاقد الشرعي أو المدني.
وهم أي العازفون على سمفونية الحقوق يعرفون من أين تؤكل كتف شاة المواطنة، بل صارت لهم دربة عبر ما راكموه من طويل تجارب اصطبغتبدخن السياسة في تحسس الأحبال الحساسة من جملة الحاجات وضغث المتطلبات المتحكمة في حركة الأهواء الشعبية التي تميل إلى الأخذ بناصية العطاء دونه بالنوال الذي لا يأتي إلا عبر الالتزام المسؤول بفرضية الواجب أولا.
ورحم الله المفكر الجزائري “مالك بن نبي” وهو الرجل الذي استطاع أن يتخلص من طوق شرك الحقوق وأن يكشف ويعري عن بشاعة المصنوعات الجاذبية للحقوق المدنية، حيث شبّه رحمه الله الإيغال والإفراط والاستغراق السياسي في استظهار المطالب الحقوقية بالخرافات الصوفية ودروشتها التي تعتمد منطق بيع الحروز والتمائم وصكوك الغفران ومدارج الأوراد المحدثة، ولم يكن هو ولا نحن معه لنلغي الحاجة الطبيعية والضرورة المعقولة والمنقولة للحقوق الطبيعية والمادية للإنسان أو المواطن بأدق وأضيق تعبير، وإنما المراد تبعا صرف الانتباه إلى حقيقة مفادها أن الحق يحمله عنصر الاقتضاء ومدلول اللازم، أي أنه من هذه الجهة وهذا الاعتبار هو ينال ولا يعطى، خروجا بحاجته الفطرية من الدروشة وذل الاستصغار إلى منقبة اليد العليا وخيريتها على اليد السفلى، وبضابط قول الله جل في علاه:”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
ولا ريب أن نوال منزلة اليد العليا، أو اقتحام عقبة النفس، يجب ألا يستهل هلاله إلا من أجل إعمال قواعد التغيير الذي يكون متوجا في آخر المطاف برفع الذل وتجلية الوهن، ومنه إعادة التمكين إلى تحت أقدام مكونات الأمة من حكام ومحكومين، ولا جرم أن نسف قواعد العطاء واستبداله بعملية النوال لم يكن ليفسر أو ليمرر تحت طائلة معناه الظاهر والذي يجد تفسيره-أي النوال- في استخلاص مادته الحقوقية عبر الاحتكام لآلية التمرد والثورة، أو ما يعرف شرعا بشق عصا الطاعة بطشا باليد وزحفا بالرجل وإعلاء لصوت الخروج مصحوبا بشعارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب الأليم.
ولعل وصفنا لهذا الباطنبالعذاب الأليم يجد تبريرهمن جهة كونه مستشرفمن قبل ومجرب من بعد، ذاق الناس وبال أمره حتى الأمس القريب والقريب جدا، ولسنا في حاجة إلى التفصيل في ما آلت إليه أمور ذلك المستشرف وهذا المجرب من اعتساف وارتداد وشيوع ظلم وقهر وتكالب، أذهب ريح دول وأسقط كياناتأخرى كانلها وزنها وكانت لها مكانتها بين دول العالم، بل تبين بالصوت والصورة والريح أن خمر الخطابات الموغلة في الحقوق الفردية هو من قبيل الخمر الذي حكم الله في مرجوحية لذته وأن إثمه كان وسيبقى أكبر من وهمنفعه وسراب بقيعته.
ولسنا في حاجة هنا إلى الاسترسال مع سيل ما وقع من المعطوفاتالنكدة، سيما وأننا كجيل تحصلت له سيئة المعاينة التاريخية لمستشرفات ووعود وقرابين من سبقونا، وراكم واقعهم سلسلة من الصنائع والطبائع العازفة على لحن سمفونيات الغرب،والمتبنية حد الإخبات لمشاريع وكذا آليات التغيير بمنطق غربي ومنظومة مستوردة ومنطق وافد صقيعي قاتل.
إن الإيغال حد الإفراط في المناداة بالحقوق، والضرب صفحا عن الكلام عن واجبات الفرد والتزاماته تجاه الجماعة أو المجتمع الرسمي الذي يعيش في كنفه، هو إيغال مسؤول عن تقهقر وتراجع طابع الخدمة الجماعية في كل وسط يعيش ناسه على وقع الشعارات الحقوقية الجوفاء، وضرب صريح فصيح في عمق وتوازن العديد من الكيانات الجماعية والمؤسساتية ذات الطابع الإنقاذي والاجتماعي المحض.
ولا أدل على ذلك أن جل المشاريع الإصلاحية التي ترفع شارتها وتصدع بشعاراتها، وتكون فيها المبادرة والمطالبة من النسيج الفردي المكون للكثير من المؤسسات ذات الطابع الاجتماعي أو حتى الدركي كالمستشفى والمدرسة والمحكمة والمرفق العمومي، لا يكون منزع الإصلاح فيها متعلق بتبسيط المساطر، وتنظيم المواعيد، وخفض الرسوم، ومكننة المرفق الصحي بما يخدم المواطنين من المرضى والمعطوبين والمظلومين، بل تجد أن كلمة الإصلاح المجملة عند الوقوف على تفاصيل قائمة مطالبها هي محصورة ومقصورة على تلبية المطالب المادية لهذا النسيج من الشغيلة النوعيةوالمؤطرة تأطيرا نقابيا له وزنه وصولته وصوته السياسي الذي يعلو منطقه متى ما اختلفت كفتي ميزان العرض والطلب، واختل التوازن الأخلاقي الذي كان ولا يزال من تجلياته أن يضرب الطبيب والمعلم ووو…عن العمل تحقيقا لا تعليقا، دون مراعاة للواجب الذي تواطأ على ضرورة منفعته وخدمته الحس والطبع والعقل والنقل، ولك أن تسأل عن المواقع المدخونةالتي يكون فيها أو يتخذها متارس رعيل السياسيين من جوقة العازفين على نِظمة الحقوق خارج سياق الالتزام بالواجب أولا، وقد اشتعل رأس الفتنة شمطا وحادت الأمور عن مجرى السيل السياسي الطبيعي لأساس التعاقد وقواعد الحكم بين الشعوب وحكوماتها…
ولسنا في الأخير ننكر أن للإنسان عموما حقوقا يقع عربون دفعها -وليس مستوعب ثمنها-على كاهل الجماعة والمؤسسة الرسمية، فذلك مما تواطأت عليه النيات والأفعال والمقاصد، ولكننا ومع التسليم بهذا نرجو ترتيب الأولويات مانحين في حدود فهمنا ومبلغ معرفتنا الأسبقية للواجب على الحق، مؤمنين بعلاقة التلازم بينهما، مطمئنين إلى الفكرة التي مفادها أن السياسة أو الخطة السياسية -بأدق تعبير- التي يتصدر فيها ويعتلي رموزها من الزعاماتالمنابر والبروج الحزبية المشيدة ليوغلوا في قرع طبول آذان الشعوب وعزف نشيد الحقوق وخاصة منها المادية والمدنية، دون أدنى تعريج يلزم الناس بواجباتهم ويحدثهم عن مسؤولياتهم تجاه الوطن والأمة، ويهديهم إلى الوسائل والمناهج التي بها وتبعا لها تنال الحقوق ولا تغنم.
هي سياسة ماكرة مدلسة تمارس لصوصيتها من وراء حجاب الخطابات والمزايدات السياسية الحزبية الضيقة الحسابات، ذات المستشرفات الرخيصة والمتسفلة أخلاقيا.
حتى إذا ضاعت الأوطان رجع قطيع الافتراس الحقوقي من الموقدين لنار الفتنة، والنافخين في رماد البغي بغير حق إلى أطلال بنيانها وجدرانها المتهالكة على متن دبابات المستعمر القديم ليمارسوا لعبة العزف والنفخ في مزمار الحقوق المطلقة في غير قيد ولا شرط يعيد الاعتبار إلى الطاقات الكامنة في جوف الواجب، والباعثة على حياة التميز والمدافعة والتفوق والتمكين…